تسارعت الأحداث وتطورت في سوريا بشكل لافت ودراماتيكي، تداخلت فيها التفاعلات والأدوار والمواقف وردود الأفعال المحلية والإقليمية، وكذلك الدولية اللاعبة في المنطقة.
فبعد سقوط حكم عائلة الأسد الذي استمر في سوريا لأكثر من نصف قرن، على يد فصائل المعارضة السورية، بينها هيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا، يبقى السؤال الآن: سوريا إلى أين؟
لم تنتهِ معاناة سوريا، لكنها الآن بكافة ظروفها الحالية تبرهن على دخولها في مرحلة لعلها هي الأصعب، تكمن في "تقسيمها"، رغم أن هذه المرحلة ليست جديدة، إلا أن أطراف التقسيم والأوجه اللاعبة هي التي تستجد في الصورة.
فبعد ضعف إيران، وانسحاب حزب الله من جنوب لبنان، وقبولهم بكافة شروط إسرائيل رغم استمرار الحرب في غزة، ضعفت قدرتهما على مواجهة فصائل المعارضة في سوريا، ما يجعلهما يخسران حصتهما في سوريا، ليحاولا الآن طرح موضوع تواجدهما في سوريا من جديد، وتحت أي شرط قد تفرضه عليهما إسرائيل إن قبلت وتركيا بذلك.
أما عن تركيا الداعم الأساسي لفصائل المعارضة منذ ثورات الربيع العربي، بخاصة فصائل هيئة تحرير الشام، تحت مبرر حماية حدودها الجنوبية مع سوريا، فهي الرابح الأول في ظل تمددها في الشمال السوري عبر فصائل المعارضة التي تدعمها. وتأتي هذه الخطوة كرد فعل لها على رفض سوريا وروسيا وإيران سابقًا، تطبيع العلاقة الذي عرضته تركيا مقابل استمرار تواجدها في سوريا، لتقابل الرفض بفرض تواجدها عبر أجندتها، وحرصها على السيطرة على مناطق واسعة. يأتي ذلك قبل تسلم الرئيس ترامب الرئاسة في واشنطن، وفرض سياسة الأمر الواقع، لتحتفظ حينها تركيا بمناطق واسعة.
إن "تحرير" سوريا اليوم عن طريق هيئة تحرير الشام، بقيادة أبو محمد الجولاني، فتح للسوريين آمالًا جديدة لمستقبل مجهول، وربما مخيف، لا يدركه الشعب السوري.
فقبل إسقاط النظام، كانت أمريكا وضعت الجولاني في قائمة الإرهاب، رغم انسحابه من منصب قيادي سابق له في تنظيم داعش، ووضع مكافأة لمن يستطيع إيصال أمريكا له، إلا أن مسؤولين أمريكيين، وفور إسقاط نظام الأسد، تحدثوا عن تفاهم غير مباشرٍ أو رسمي بين سوريا وأمريكا، تضمن فيه أمريكا بقاءها في سوريا تحت ستارة محاربة داعش، والتواجد الإيراني، وكذا حماية حلفائها الأكراد في الشمال الشرقي من سوريا، ويضمن أيضاً سيطرة الجولاني على إدلب ومناطق من شمالي غرب سوريا، ليرى الجولاني أن هذا التفاهم غير المباشر سيمكنه من تحسين صورته أمام النظام الدولي، أما عن أمريكا فهي استراتيجية لتجنب التصعيد في إدلب التي تضم عشرات من الفصائل المسلحة.
إلا أن هذه العلاقة المفاجئة بين أمريكا والجولاني، ما هي إلا علاقة مصالح قائمة على حساب مصالح الشعب السوري، فأمريكا تحاول البقاء في سوريا تحت أي مبرر، لتواصل نهبها لثرواتها وحقول نفطها، يؤكد تلك العلاقة تصريح أصدرته الخارجية الأمريكية بأنها تدرس قرار حذف اسم الجولاني من قائمة الإرهاب، وإسقاط العقوبات التي كانت أصدرتها في حقه سابقًا.
لنصل هنا للطرف الأهم، وهو "إسرائيل" الابنة المدللة لأمريكا، هي الأخرى قامت بقصف مخازن الأسلحة السورية، بالتزامن مع سيطرة هيئة تحرير الشام على دمشق، والتقدم نحو مناطق أخرى جديدة، غير تلك التي كانت تسيطر عليها، بدافع حماية حدودها، متجاهلة بذلك التقدم قواعد القانون الدولي، فلم يعد الأمر بالنسبة لها يقتصر على جبال الجولان والمنطقة المجاورة، بل امتد ليشمل منطقة جبل الشيخ، ومناطق تبعد عن العاصمة تدمشق بضع دقائق فقط.
إن سيطرة إسرائيل على جبل الشيخ في سوريا تعد تتويجًا لسيطرتها العسكرية الموازية والمطلة للمناطق الحدودية، وتكمن أهمية الجبل أيضًا في أنه يقع في المنطقة الحدودية بين سوريا ولبنان، والتي كانت بوابة إيران للإمداد العسكري لحزب الله.
ويراقب العراق كل ما يحدث، ويعيش في حالة قلق حقيقية، لا سيما وأن التهديد الآن يقترب منه، لأنه الدولة الوحيدة في المنطقة التي مازالت تحتضن التدخلات الإيرانية في أرضها، وهو ما يجعلها الهدف القادم أمام أمريكا وإسرائيل، وأيضًا تركيا، كل حسب مصالحه.
وفي النهاية، يبقى المشهد واضحًا، ولا صدفة في ذلك، فالتناسق العجيب بين تركيا وإسرائيل وأمريكا وهيئة تحرير الشام، يؤكد أن تقدم قوات الهيئة وتحرير سوريا في أقل من 15 يومًا، وسكوت الجولاني عن تقدم تركيا وإسرائيل، وسيطرتهما على مناطق واسعة في شمالي وجنوبي غرب سوريا، ما هو إلا مخطط لتقسيم سوريا، لتهرب أرض الياسمين من المر إلى الأمرّ منه، فمستقبلها اليوم مجهول ما لم تقم هناك دولة حقيقية ذات سيادة سورية دون مصالح أجنبية.