صنعاء 19C امطار خفيفة

حوار قبل القسطرة..! (2)

في ليلة أخرى من ليالي التأمل الممزوج بالرهبة، وضعت يدي على صدري وكأنني أمنح قلبي فرصة أخيرة ليبرر نفسه قبل أن نخضعه لعملية "التنظيف الداخلي".

 
لا يزال القلب صامدًا، رغم كل شيء، وكأننا في هدنة قصيرة قبل المعركة القادمة. ابتسمت وقلت: "ها نحن هنا يا صديقي، مرة أخرى. أعلم أنك متعب، وأنا كذلك، ولكننا لم نصل إلى هذا الحد لنستسلم الآن. أليس كذلك؟ دعنا نتحدث قليلًا؛ لدينا الكثير لنقوله".
 
قلت له بنبرة يملؤها السخرية: "يا عزيزي، هل تشعر بالضغوط؟ لا تقلق، القسطرة ليست سوى جلسة تدليك داخلي فاخرة، شيء أشبه بـ(سبا)، ولكن بأدوات حادة!"
 
ساد الصمت، وعمّ قلبي شعور غريب ممزوج بالتوتر. تابعت قولي: "أتعلم؟ نحن أشبه بفريق رياضي لم يحقق أي فوز، ورغم ذلك، يحاول المدرب إصلاحه بالتكتيكات. نعيش تحت شعار: 'الإصلاح مستحيل... لكننا نحاول'".
 
توقفت لحظة ثم قلت بنبرة فلسفية ساخرة: "هل لاحظت كيف أصبحنا جميعًا خبراء في تفسير الأزمات؟ السياسيون يتحدثون عن إعادة بناء بينما يعيدون بناء جيوبهم. الأطباء لديهم خطة محكمة لجعلنا نحفظ أسماء كل الأجهزة الطبية بحكم زياراتنا المتكررة. حتى الحلاق أصبح ينصحني بفيتامينات للقلب!".
 
تسارعت نبضاته كأنه أراد أن يقاطعني، لكنني تابعت بإصرار: "لا تقلق، يا صديقي. القسطرة ليست سوى وسيلة لتأكيد أنك لم تعد تملك حق الاستراحة. يقولون إنها علاج، لكنني أعتقد أنها طريقة لجعلك تعمل بكفاءة أكبر في خدمة الضغوط اليومية. أليس هذا ما نفعله جميعًا؟ نعيش لنخدم الأزمات!".
 
حاولت تهدئة النبرة قليلًا وقلت: "على أي حال، دعني أخبرك بشيء إيجابي: بعد القسطرة، ربما تستطيع تحمل الأخبار اليومية دون أن تنهار. أعني، يا قلبي، الحرب، الاقتصاد، المجتمع... نحن في برنامج واقعي طويل الأمد اسمه 'كيف تعيش دون أن تفقد عقلك؟' وأنت نجم البرنامج بلا منازع!".
 
شعرت بنبضه يهدأ قليلًا وكأنه استوعب نبرتي، فأضفت: "على فكرة، لا تفكر كثيرًا. القسطرة ليست النهاية؛ إنها مجرد إعلان رسمي أن الأمور لم تعد على ما يرام. دعنا نتعامل معها كفرصة جديدة، مثل 'إعادة ضبط المصنع'. وربما نكسب من ورائها قصة جيدة نرويها للجيران، أليس كذلك؟".
 
أحسست بنبضه يتسارع من جديد، فابتسمت وقلت: "يا رفيقي، استرخي. إن لم تصلح القسطرة الأمور، فعلى الأقل ستكون قد حصلت على حفلة داخلية لم يحضرها أحد غيرك! عزيزي القلب، القسطرة ليست أكثر من ترقية جديدة لنظامك المنهك. لا تقلق، إنها مثل تحديث البرنامج على هاتفك: سيخبرونك أن كل شيء سيصبح أسرع، لكنه غالبًا سينتهي بمزيد من التعقيد".
 
شعرت بنبضه يتباطأ قليلًا، فتابعت: "حسنًا، لنبدأ بالتسلية المفضلة لدينا: استعراض آثار الحرب. لنبدأ بالمستوى الشخصي. أتعرف يا صديقي؟ حياتنا أصبحت مثل مسلسل طويل، مليء بالدراما السيئة، بلا حبكة واضحة ولا نهاية قريبة. أصبح مجرد التفكير في الغد إنجازًا. نحن نعيش في عالم تبدو فيه الأحلام رفاهية لا يحق لنا حتى التفكير بها. كأنك تخبر طفلًا جائعًا أن الحلوى ستأتي... بعد نهاية المجاعة. 
 
تغيّر كل شيء، يا صديقي. الحرب لم تترك شيئًا إلا وأفسدته. نعيش يومنا بيومنا، لا نعرف إن كنا سنستيقظ غدًا أم لا. لقد استهلكتنا الضغوط، وصارت الأوجاع جزءًا من روتيننا".
 
تابعت: "يا صديقي، أتذكر حين كان الناس يتحدثون عن الحلم؟ الحلم بحياة كريمة، بوطن يحتوينا؟ الآن، صار الحلم مجرد البقاء. البقاء على قيد الحياة، ولو ليوم إضافي. أتعرف؟ أحيانًا أشعر أن هذا الوطن لم يعد وطنًا، بل ساحة اختبار قاسية، نعيش فيها بين شظايا الحرب وركام الذكريات".
 
شعرت بنبضة خافتة، كأنها تأكيد صامت لما قلته، فأضفت: "بخنجر الغدر، أو برصاص الفقر والجوع، أو بعبء الذكريات التي أثقلت أرواحنا. نحن، يا صديقي، أحياء بالكاد؛ نتنفس من خلال شقوق الأمل الضيقة، كأننا نتسول الحياة ذاتها".
 
نبضة ثقيلة، وكأن القلب يتساءل: ما الذي ستضيفه بعد كل هذا الألم؟
 
"لا تغضب يا صديقي. أعلم أن هذا الحديث ثقيل عليك، لكنه ضروري. الحرب ليست فقط أصوات المدافع وصدى الرصاص، بل هي أيضًا أزيز الصمت الذي يخترقنا. هي تلك الليالي الطويلة التي نحاول فيها التمسك ببقايا إنسانيتنا وسط كل هذا الخراب".
 
تسارعت نبضاته كأنها تحاول مقاطعتي، فأردفت: "لكنني لن أتكلم عن الحرب كحدثٍ فقط. أريد أن أخبرك عن الحرب التي دارت داخلي. تلك التي شنتها أحلامي ضد واقعي. أتذكر تلك الليلة التي كنت فيها بالكاد أستطيع التنفس من ثقل الخيبات؟ حين أحاطني الألم من كل جانب، وكنت أنت الوحيد الذي يواصل العمل بصمت، وكأنك تقول لي: 'لا زال هناك أمل'".
 
تردد القلب للحظة، ثم شعرت بنبضة هادئة كأنها تقول: "تابع". أخذت نفسًا عميقًا وقلت: "سأحدثك عن الناس، عن وجوههم التي باتت تحمل آثار الحرب أكثر من أجسادهم. رأيت الجوع في أعينهم، والخوف في خطواتهم، والخذلان في صمتهم. مواطنون يتبلعون آلامهم بصمت كي لا يزعجون الآخرين".
 
نبض القلب كأنه يعاتبني، فأردفت: "لا تغضب مني. أنا أيضًا أكره هذه الأفكار. لكن، كيف يمكن أن نرى الجمال في عالمٍ يختنق بالقبح؟ تلك الأحلام التي كنا نحملها في قلوبنا أصبحت أثقل مما نحتمل. لقد أضعنا الطريق، يا صديقي. وبينما كنا نحاول أن نبحث عن النور، أطفأوا كل المصابيح، وتركوا لنا الظلام".
 
أحسست وكأنه يشير لي بالانتقال إلى مستوى آخر، فقلت: "على المستوى السياسي، يا رفيقي، نحن أمام سيرك عالمي، لكن بنسخة يمنية. السياسيون هنا يتشاجرون كالأطفال في روضة، كل منهم يصرخ (هذا لي!)، بينما الوطن ينهار ويغرق في بحر من الفوضى. يتصارعون على فتات السلطة. كل طرف يدّعي أنه المنقذ، لكنهم في الحقيقة مجرد لاعبين على مسرح الأوهام، تحركهم المصالح الخارجية. وما يزيد الطين بلّة هو كيف أصبحت الأزمة اليمنية مجرد عنوان باهت في نشرات الأخبار العالمية. يبدو أننا أصبحنا نكتة حزينة في المسرح الدولي. لم يعد للإنسان اليمني قيمة تُذكر، إلا كمجرد رقم في إحصائيات الموت".
 
وأضفت: "الأطراف المتصارعة يا صديقي تتلاعب بنا كدمى خشبية. يطيلون أمد الأزمة لأنهم يستفيدون منها، يبيعون الأوطان في أسواقهم الخاصة، ونحن ندفع الثمن. أتذكر كيف كانوا يتحدثون عن السلام؟ كان مجرد كلام، شعارات جوفاء لتخديرنا".
 
أخذت نفسًا عميقًا وقلت: "أما الاقتصاد؟ يا له من مهزلة. لم تعد هناك موارد، فقط جيوب فارغة تُنتزع منها آخر القروش لصالح أولئك الذين يملكون كل شيء. النفط؟ يبدو أننا نملكه على أوراق الدراسات فقط. المرتبات؟ أو قل أنصافها.. نكتة سمجة تُعاد علينا مع كل بداية فصل جديد من فصول السنة".
 
توقفت لحظة ثم أكملت: "أما على المستوى الاجتماعي، فحدث ولا حرج. تفككت الأواصر. صرنا مجتمعًا منقسمًا، كل طرف يكره الآخر، وكل فئة تتربص بالأخرى. لقد أصبحنا مجتمعًا متخصصًا في الكراهية. المذهبية والعصبية تأكل الأخضر واليابس. الانتماءات الضيقة دمرت نسيجنا الاجتماعي. حتى مواقع التواصل الاجتماعي، تلك التي كنا نظنها مساحة للحرية، تحولت إلى منصات للشائعات والكراهية. أصبح السبّ والشتم ثقافة سائدة، وظهر مشاهير لا يحملون إلا الفراغ. يملأون الشاشات ويعمقون الانقسام. صار البعض يبني شهرته على السب والشتم، على بث الفرقة والتعصب، وكأننا لا يكفينا ما نحن فيه. مشاهير السباب أصبحوا قدوة لجيل جديد، يظن أن التفاهة هي السبيل الوحيد للشهرة.
 
حتى ثقافتنا، التي كانت حصننا الأخير، أصبحت خاوية، وتدنّت إلى مستوى يثير الاشمئزاز. أتألم كثيراً حين أرى تبعات الحرب تفرغ الثقافة من محتواها، وتستهوي بعض الكتاب والمثقفين الذين باعوا أقلامهم لمن يدفع أكثر".
 
تسارعت نبضاته مرة أخرى، فقلت مطمئنًا: "اهدأ، لم أنتهِ بعد. هل تعلم كيف يموت اليمني؟ يا صديقي، لدينا خيارات واسعة: إذا لم تأخذك الحرب، فقد تفعل ذلك الحوادث على الطرقات، أو إهمال المستشفيات، أو الأدوية الفاسدة، أو المبيدات السامة، أو جرعات الماء الملوثة، ومن لم يمت بهذه جميعًا مات انكسارًا. أما من نجا، فهو يعيش كأنه طيف بلا ملامح، يتنقل بين الخوف واليأس".
 
رد القلب بنبضة متوترة، كأنه يستحضر كل ما عانيناه، فقلت: "أعلم، يا صديقي. إنه أمر يفوق الاحتمال. لكن دعني أشرح لك أكثر. هل رأيت كيف تحولت الحرب إلى أداة لإذلالنا؟ من ينجو من الموت المباشر، يلاحقه الموت البطيء: البطالة، الجوع، الفقر. الصحفيون، على سبيل المثال، لم يعد لهم مكان. الفرص صارت حكرًا على شلل صغيرة؛ مجموعات مغلقة تتقاسم المنافع كأنها غنائم. أما نحن؟ فنحاول النجاة بين الأطلال. نعيش في بلد يجبرك على الإيمان بالمعجزات كل يوم لأنك ما زلت حيًا. لا أحد يهتم بنا، يا رفيقي".
 
ضحكت بخفة وأضفت: "وبينما نحن نحتضر هنا، العالم يتصارع على قضايا أخرى. وبين كل تلك المسرحيات. لا أحد يكترث لليمن. حتى بعض النشطاء لدينا تحولوا إلى ما يشبه لجنة لمراقبة التفاهة: يهاجمون والدًا يحتضن ابنته في حفل تخرجها، بينما يتجاهلون الدماء التي تُسفك في كل زاوية، ودموع الجوع والذل التي تستدير على الخدود فتحرق أصحابها، ويحرق لهيبها الأرض التي تقلّهم".
 
توقفت لحظة لأراقب نبضه، ثم قلت بنبرة تجمع بين السخرية والأسى: "وبالطبع، لا تنسَ أولئك الذين يدّعون النضال الحقوقي والمدني، لكنهم أول من ينتهك حقوق الآخرين. يكفي أن تختلف معهم في الرأي لتصبح هدفًا للتشهير والتحقير، وربما التخوين. نحن نعيش في زمن يعتقد فيه الجميع أنهم أبطال، بينما الحقيقة أن المسرح مكتظ بالهواة".
 
تأملت قليلًا قبل أن أتابع: "تعرف يا صديقي، في بعض الأحيان أشعر أننا فقدنا قدرتنا على الغضب، على الاحتجاج، على الصراخ في وجه هذا الظلم. كأننا أصبحنا مجرد أشباح، نعيش بلا روح. نتحرك وكأننا آلات بُرمجت على تحمل ما لا يُحتمل. ومع ذلك، ما زلنا هنا. ربما لأننا لا نملك خيارًا آخر. أو ربما لأننا نرفض أن نستسلم رغم كل شيء".
 
شعرت بنبضات القلب تتسارع قليلًا، وكأنها تحمل همًّا مشتركًا، فأضفت: "لا تقلق، أنا وأنت في هذا القارب معًا. قد نكون غارقين في بحر من الألم، لكننا لن نغرق دون أن نحاول السباحة. دعنا نعتبر هذا الحوار تمرينًا على الصمود، على الأمل، حتى لو كان أملًا هشًا".
 
استرخت النبضات وكأن القلب بدأ يتقبل فكرة التحدي القادم، فأكملت: "إذن، لنكن واقعيين يا صديقي. الحرب لم تنتهِ، والقسطرة ليست سوى محطة جديدة في رحلتنا. لكنني أعدك بشيء واحد: سنبقى نحاول. سنبقى نبحث عن ذلك الضوء الصغير في نهاية هذا النفق الطويل، مهما بدا بعيدًا أو مستحيلًا".
 
ابتسمت وقلت: "أتعلم؟ ربما بعد كل هذا الألم، وبعد كل هذه الجروح التي نحملها، سنخرج أقوى. وربما، فقط ربما، سنتعلم أن نعيش حقًا، أن نحتفي بكل نبضة وكل نفس كأنه هدية ثمينة".
 
همست في النهاية: "أعدك، يا رفيقي، أن الحوار بيننا لن ينتهي. سأعود دومًا لأخبرك بما يحدث، وسنستمر معًا في هذه الرحلة العبثية. إلى لقاء قريب، في فصل آخر من هذه الحكاية التي لم تنتهِ بعد".
 
توقف الحوار بيني وبين قلبي، لكن الصمت الذي عمّ المكان لم يكن فارغًا. كان مليئًا بتلك النبضات الهادئة، كأنها إيقاع أغنية صمود في مواجهة كل ما هو قادم.
 
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً