صنعاء 19C امطار خفيفة

لماذا قرر اللاعبون الإقليميون والدوليون إسقاط نظام الأسد؟

2024-12-10

الإجابة على هذا التساؤل تتطلب أولًا مراجعة وقراءة الأسباب الحقيقية التي جعلت القوى الدولية والإقليمية ترى في إسقاط النظام السوري حتمية لا بد منها، وهنا لا يمكن اعتبار بطش ذلك النظام واستبداده وقمعه بين تلك الأسباب، وإن كان يعتد بها بالنسبة للشعب السوري فقط دون فصائله المسلحة، وهو الأمر الذي يدعونا إلى قراءة أوسع وأعمق لمنظومة المصالح العليا المتشابكة والمتقاطعة لأولئك اللاعبين في الداخل السوري والمنطقة من حيث ماهية وطبيعة نلك المصالح والأهداف، والتي كان نظام الأسد يشكل حائلًا أو مانعًا أمام تحقيق اشتراطات ومقاربات إنجاز تلك المصالح!

 
كان نظام الأسد يشكل طيلة عقود من الزمن الرافعة السياسية العربية المناهضة لفكرة التطبيع مع إسرائيل، من خلال تبنيه لإنتاج وعي جمعي مناهض لفكرة التطبيع، وكذلك دعمه واحتوائه التاريخي لحركات المقاومة المسلحة في فلسطين ولبنان، بمختلف توجهاتها الأيديولوجية. بحيث أصبح تمرير فكرة التطبيع الشامل مع دول وشعوب المنطقة أمرًا غير ممكن، حتى وإن تمت تسويات مع بعض الأنظمة العربية كالأردن ومصر، ومؤخرًا الإمارات والبحرين. وحيث إن إسرائيل ترى في فكرة التطبيع مع المحيط العربي وإنجازها ضرورة متعلقة من حيث أهميتها بصياغة محددات الأمن القومي الوجودي لدولة إسرائيل، بخاصة بعد أن فشلت المنظومة الغربية، في تسعينيات القرن المنصرم، في إيجاد أية اتفاقيات ومعاهدات تسوية بين دمشق وتل أبيب، على غرار ما تم مع السلطة الفلسطينية في مدريد وأوسلو. وما إن أتت أحداث 2011م التي اجتاحت المنطقة لترى فيها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون الفرصة التاريخية لإسقاط دمشق تحت مسمى الثورة الشعبية.. لكن صيرورة المعطيات لم تسر في سوريا كما خطط لها الخارج لإحراز إنجاز إسقاط ليس النظام السوري فحسب، بل إسقاط الدولة برمتها وفق ما هو مأمول.
 
 وحين تعثر الحراك الشعبي السوري في تحقيق هذا الهدف، تم العمل على عسكرته من خلال إنشاء جماعات أصولية إرهابيه تكفيرية، وتمويلها ودعمها عسكريًا، ليس لمواجهة النظام، وإنما لتدمير كل مقومات وإرث وهوية ومكتسبات الدولة السورية والمجتمع..وأمام هذه الانعطافة التي رسمها العقل الاستخباراتي الغربي، ومولها الأتراك والقطريون، دخلت عوامل وقوى جديدة لإسناد النظام، ممثلة بروسيا وإيران، وهذا ما زاد المشهد السوري تعقيدًا، وتحويله إلى حلبة صراع شرس بين القوى العالمية الكبرى.
 
 وأمام احتياج النظام السوري لمثل ذلك الدعم، استطاعت إيران، وبلؤم ممنهج، أن تعيد صياغة أولويات الصراع، ولي عنق دمشق، حتى الإذعان، بخاصة بعد أن أسهمت مليشياتها في العراق ولبنان وسوريا في حسم الأمور، وإضعاف الفصائل المدعومة من الغرب وتركيا، وهنا تملكت إيران مقاليد وأدوات النظام السوري، وتوجيه حراكه لخدمة مصالحها وأطماعها المعروفة المغلفة بفكرة المقاومة وتحرير فلسطين، مستفيدة من إرث النظام السوري التاريخي في هذه الفكرة والمسالة، وهو الأمر الذي أسفر عن تنامي فكر وأدوات حركات المقاومة المسلحة المناهضة لإسرائيل والموالية لإيران في سوريا والعراق ولبنان واليمن، ووصولها إلى نقطة الخطر في الداخل الفلسطيني، وتمكن تلك المليشيات من الاستحواذ على موارد ومقدرات الدول التي انتشرت فيها، وتعطيل كل أدوات العمل السياسي الوطني، وتحويله قسرًا لخدمة الاستراتيجيات الإيرانية، وبذلك تكون طهران تمكنت من تخليق أدوات عسكرية مليشياوية في المنطقة قادرة على تمويل نفسها وطنيًا، وتوجيهها نحو إسرائيل متى لزم الأمر..!
 
وأمام ذلك المشهد الجديد المتزامن مع تفاعلات صراع عالمي أوسع بين الكبار في الصين وموسكو وواشنطن ولندن، تمخضت شرارته الأولى في الحرب الأوكرانية. كان لا بد لأمريكا وإسرائيل من تحقيق مجموعة أهداف وتسوية بعض الملفات العالمية قبل خوض أي صراعات عالمية مع الصين وروسيا، وكان من أهم تلك الملفات الشرق الأوسط، حيث بدأت تفاهمات شبه جدية حول تسوية فلسطينية وتطبيع مع إسرائيل قادتها الدبلوماسية الأمريكية مع ولي العهد السعودي الذي يقود مشروعًا تصحيحيًا وتنمويًا في السعودية. ولما كانت القضية الفلسطينية هي الإطار المشروعي والتعبوي التي تغلف به إيران مطامعها في المنطقة، كان لا بد لها أن تعيق تلك المسارات التي بدأت تتبلور تجاه تسوية عربية إسرائيلية، بخاصة وأنها -أي طهران- كانت مدركة مبكرًا لمثل تلك المسارات، وعملت على تأطير حركة حماس ضمن محورها.. أمام ذلك، وبرضا روسي ضمني، قامت إيران بنسف مسار الاشتراطات الأولية التي بدأت تتبلور في الملف الفلسطيني، وذلك بتفجير عمليات السابع من أكتوبر في الداخل الفلسطيني، عبر حركة حماس.. وهنا وبعد وصول إيران بأدواتها وأذرعها العسكرية إلى عمق منظومة الجغرافيا الناظمة للأمن القومي الوجودي لإسرائيل، وتهديد مواطني الدولة العبرية، ومرتكزات وجودها، بالإضافة إلى تعبئة الشارع العربي بعواطف الهاجس التاريخي المقاوم لإسرائيل عبر عمليات أذرعها العسكرية وخطابها التعبوي، ووصول الأمور إلى شن حرب على إسرائيل من غزة ولبنان واليمن والعراق وسوريا..
كان لا بد لأمريكا وإسرائيل والمنظومة الغربية ككل، وبموافقة غير معلنة من دول عربية، من إعادة ترتيب الوضع السياسي للمنطقة برمتها، وضورة القضاء على نفوذ إيران العسكري بشكل ناجز. ولما كانت المسالة قد ترامت في تعقيداتها وتنامي مكنات إيران، كان لا بد من رؤية منهجية عميقة توظف فيها كل المكنات المتاحة لإعادة صياغة المنطقة على النحو الذي يلغي كافة المخاطر التي باتت تهدد الوجود الصيروري للدولة العبرية، وقد اقتضت تلك الرؤية والمنهجية الاعتماد على القوه العسكرية لإسرائيل، وفتح جبهات مواجهة مع إيران وأذرعها، ولكن بشكل تدرجي، وليس في آن واحد، وبذات القوة تقوم الدبلوماسية الغربية والأمريكية بخلق فضاءات سياسية تهويمية تعكس في مجملها التشويش على أية قراءات تكشف عن حرب شاملة تدريجية تسقط أنظمة، وأن الأمر محصور في جغرافيا ضيقة وما دونها خاضع في المواجهة لقواعد اشتباك متفق عليها.. وقد لعبت السياسة وجهود المفاوضات الطويلة في حرب غزة دورًا تنويميًا عن إدراك الملامح الكلية للخطة الكاملة، وبعد عام من الحرب في غزة، وتدمير حماس، تم الإجهاز على حزب الله في لبنان، ومن ثم تلى ذلك ما حصل مؤخرًا في سوريا، وكما لو أن الأحداث جرت نفسها من حدث إلى آخر بمعطيات آنية، وليست ضمن خطة ممنهجة ومرسومة مسبقًا.. وبهكذا تكون إسرائيل وأمريكا وحلفاؤها الإقليميون في تركيا وقطر بالذات، تمكنت من تحقيق عدة أهداف بإسقاط أذرع إيران العسكرية التي كانت تحول دون إنجاز أي تفاهم عربي إسرائيلي، وإزالة الخطر المتنامي عسكريًا وأيديولوجيًا في المنطقة، والذي بات يهدد الصيرورة الوجودية للدولة العبرية.. وفي نطاق أوسع القضاء على النفوذ الاستراتيجي والعسكري الروسي في الشرق الأوسط، والذي كان تمكن من توجيه صفعات قاسية لأمريكا في المنطقة، وفي سوريا تحديدًا..! ولما كان نظام دمشق هو البؤرة التاريخية المغذية لفكر المقاومة ضد إسرائيل، كان لا بد من الإجهاز على نظامها في دمشق، دون الاكتفاء بالقضاء على المليشيات التابعة للمحور الإيراني في لبنان وغزة، لأن بقاء النظام السوري، وإن هزيلًا، سيمكن من استمرار بقاء إيران في المنطقة، وبالتالي إمكانية إعادة بناء الحركات والمليشيات المسلحة في لبنان وفلسطين والمنطقة برمتها، وكانت تراتبية تنفيذ المخطط الغربي غاية في الدقة والمنهجية، بخاصة وأنها أرجأت إسقاط دمشق إلى ما بعد إسقاط حزب الله!
 
إن تلك الأهداف التي انتظمت فيها الأحداث الأخيرة، والتي حددتها أمريكا وإسرائيل، قد لا تقف عند هذا الحد في القضاء على أدوات إيران وفكر المقاومة، وإبعاد النفوذ الإيراني كليًا من المنطقة، وتحقيق الأمن القومي الصيروري الدائم لإسرائيل، وإنجاز تسويات عربية إسرائيلية قادمة، وإبعاد روسيا من الشرق الأوسط، و... الخ، قد لا تكون منظومة بنك الأهداف هي تلك فحسب، وإنما قد تتوسع إلى ما هو أخطر، بخاصة في صعود هاجس ومطامع الأتراك في حلب وشمال سوريا، وبرتوكولات الأيديولوجيا الصهيونية في مشروع توراتي في المنطقة.. والأشهر القادمة ستوضح معالم تنامي أو توقف تلك المطامع، ففي حال فشل السوريين في إنجاز بنية سياسية ديمقراطية تحوي كل الفصائل السورية، وتؤسس لمرحلة انتقالية تقود لنظام سياسي ديمقراطي تعددي في سوريا، فإن مثل ذلك الفشل بدوره يعد استمرارًا لمسلسل مرسوم مسبقًا، هو ضمن الخطة المشار إليها، تكون أحداثه بعد سقوط دمشق هو اقتتال سوري سوري كمقدمة حتمية لتقسيم سوريا، وتناهبها جغرافيًا: في الشرق كيان كردي، ولو بالصيغة العراقية (حكم ذاتي)، وفي الشمال ضم حلب وريفها لصالح الأتراك، وفي الغرب تمدد إسرائيل لريف دمشق وجنوبها، بينما يبقى الوسط والساحل السوري بؤرة اقتتال بين السوريين لحين تخليق حامل منهم خادم كليًا لمصالح إسرائيل وتركيا والغرب... وفي الأشهر العشرة القادمة ستتضح كل تلك المسارات وجودًا أو انتهاءً!

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً