انفردت صنعاء بمبادرة من منتدى الحداثة والتنوير الثقافي بقيادة فيصل عبدالجليل بالاحتفاء في ٥ ديسمبر بعيد ميلاد الغني عن التعريف عبدالفتاح إسماعيل الخامس والثمانين في بيت الثقافة، وليس في مقر الحزب الاشتراكي الذي شهد أول احتفال مماثل بُعيد قيام الوحدة عام ١٩٩٠ التي كانت غايته الأعظم. التقيت بعبدالفتاح مرتين؛ الأولى بعد الاستقلال في القاهرة وهو وزير للثقافة ولشؤون الوحدة، ضمن عدد من الطلاب أعضاء الجبهة القومية والحزب الديمقراطي، والثانية عام ١٩٧٨ بمناسبة زيارته لأديس أبابا أثناء حفل استقبال أقامه الرئيس الإثيوبي منجستو هيلي مريم، على شرفه. كان من أعضاء الوفد يوسف علي بن علي، مدير ميناء عدن، الذي عرفته في القاهرة أثناء الدراسة والنشاط الحزبي المشترك. قلت ليوسف لأول مرة أرى الجمبري في تلك المأدبة الفخمة التي انتُقِد الإمبراطور هيلاسلاسي بشدة على إقامته لأمثالها، وكان رده نحن في عدن لم نعد نراه لأن الروس يصطادونه ويصدرونه إلى روسيا من البحر رأسًا.
كان القائم بأعمال السفارة وقتذاك هو أحمد محمد المتوكل، الحديث العهد بالعمل الدبلوماسي، والمتحدث اللبق الرفيع الثقافة الذي تحدث مع عبدالفتاح وهما واقفان لوقت تجاوز المجاملة والتحية، مما أثار إعجاب عبدالفتاح، ودعاه لزيارة عدن.
عندما أطيح بعبدالفتاح في أبريل ١٩٨٠، كانت البهجة واضحة في صنعاء لغير ما سبب، إلا أن عبدالفتاح كان يحرج نظامها بتميزه الوحدوي الذي شوهته دوائر في صنعاء وخارجها، ونقلته إلى خانة التطرف السياسي والأيديولوجي، والاتهام بالدموية، والتغاضي عمن كان دمويًا بالفعل.
مثلًا اغتيل عضو في الحزب الديمقراطي في إثيوبيا، يدعى "القاضي"، كان محل استفسار عبدالحفيظ بهران في أديس، وهو في طريقه إلى الصين، على رأس وفد من التعاونيات. بعد سنوات وجدت الجواب في نيودلهي عند الزميل عبده قاسم، العضو السابق في سفارة الجنوب في أديس، والذي أصبح سفيرًا في جيبوتي، بعد الوحدة. قال السفير إن ملابس القاضي ظلت معلقة في سفارة الجنوب لعدة أيام، وهي ملطخة بدمه. في فندق هَرمبي بأديس، أشار خالد طرموم، رئيس الجالية اليمنية في إثيوبيا، إلى زميل في سفارة الجنوب، قائلًا بأنه المسؤول عن الاغتيالات في أديس.
بعد إزاحة عبدالفتاح، ساورني قلق شخصي جعلني ألح على وكيل الخارجية أحمد الإرياني، لكي أنضم إلى وفد برئاسة رئيس الوزراء عبدالعزيز عبدالغني، كان متوجهًا إلى عدن. اعتذر الوكيل بحجة أن الجنوب قضية داخلية لاصلة للخارجية بها، ولكن رغبة الأمن في إلحاق زميل بالوفد لم يستطع مقاومة ضغوطه ليصبح من المزدوجين وظيفيًا، سهلت على الوكيل تحقيق رغبتي.
الأصل أن النظام الذي يحدث فيه تغيير هو الذي يبعث الوفود لشرح وتبرير ما حدث فيه، ولكن ما فعلته صنعاء كان العكس، ولم يكن سوى تعبير عن سعادتها، وكانت تريد أن تطمئن على ما بعده.
قبل الذهاب:
قمت بزيارة زميلي عبدالله حميد العلفي، عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، لعرض استعدادي لنقل أية رسالة إلى رفاقه حول مستجدات عدن، وكان رده طمني عند العودة، وليس لدينا أية رسالة.
في الطائرة:
لم يكن متوقعًا أن يضم الوفد رئيس الأركان العقيد عبدالعزيز البرطي، الذي يبدو أنه كلف بمهمة عسكرية منفصلة عن مهمة رئيس الوفد، ولم يظهر أثناء فعاليات الزيارة. انبرى البرطي متحدثًا في الطائرة، وهو واقف غير مخفٍ غبطته بإزاحة عبدالفتاح، ومما قاله أن "علي ناصر يطارد الجبهة الوطنية الآن من شِعب إلى شِعب"، ونصح الإعلاميين وحدهم بإغلاق أفواههم عندما يشربون. ما قاله رئيس الأركان عكس ابتهاج الرئيس صالح بإزاحة عبدالفتاح، خصمه الأول في الجنوب، الذي كان يحرجه بوحدويته قبل أي شيء آخر.
زال القلق الذي سببه البرطي عندما وجدت جار الله عمر وسلطان أحمد عمر ويحيى الشامي وحسن شكري، في الصف الأول لمستقبلي الوفد في مأدبة غداء أقامها على شرف رئيس الوزراء والوفد، الرئيس علي ناصر، في البُريقات، وعلى غير اتفاق كانت المصافحة المتبادلة بيننا عادية أو قل باردة، وكأننا لا نعرف بعضنا البعض، وبلقائهم أيقنت بأن المعلومة التي ذكرها البرطي كانت من أضعاث أحلام الرئيس علي صالح.
في شاطئ جولد مور:
ذهبت إليه بعد العصر للسباحة، وبالصدفة وجدت ضالتي المنشودة في الدكتور محمد قاسم الثور (الهمداني)، عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، الذي أطفأ قلقي، وطمأنني، وفي الأثناء وصل زميلي المزدوج وظيفيًا الذي أراد معرفة اسم د. الثور، وتجنبًا لمتاعب محتملة سميته اسمًا غير اسمه، وفورًا أستأذن د. الثور بالمغادرة.
أثناء الزيارة سألت عمر الجاوي عن سبب ذلك التغيير المفاجئ والصادم، وكان جوابه بأن عبدالفتاح أخطأ في تقليد النظام السوفيتي بالجمع بين منصب رئيس الدولة وبين منصب الأمين العام، لأن دواليب العمل الحكومي المعقدة، والتي تتطلب التفرغ، لم تكن من اهتماماته مطلقًا.