يذكرني أستاذي الدكتور عبدالعزيز المقالح، بشجرة عظيمة في مدخل قريتنا، اسمها الثآبة، وكانت الثآبة بسقفها الأخضر دائم الاخضرار، تظلل الناس والدواب والبهائم، وتقوم بعدة وظائف، فهي مدرسة يدرس الأطفال تحتها، وهي سوق يجلس الباعة في ظلها يبيعون منتوجاتهم وما حملته حميرهم من قراهم البعيدة، وهي كذلك محطة للمسافرين المتعبين يتوقفون عندها ويستريحون في ظلها، وكان المظلومون والخائفون من الحكومة يجيئون إليها بحثًا عن العدل والأمان، ومثلهم يأتي الشعراء والمغنون، فيشعرون ويغنون، وإليها يأتي مجاذيب ابن علوان، ويجذبون. وكانت كل حياة القرية تتمحور حولها، وعندها يجتمع الأهالي، ويتحدثون عن مشاكل وهموم قريتهم، وعن مشاكل وهموم اليمن والعالم أجمع.
وكانت الثآبة لما لها من قيمة ومعنى، تعني لأهل القرية الكثير، حتى لقد غدت أكبر من كونها شجرة، وأكثر قداسة من كل أولياء القرية.
ونحن نظلم المقالح حين نتحدث عنه كشاعر أو كناقد أو كمفكر.. أو حتى كمناضل سبتمبري.. وفي بلد مثل اليمن سهل أن تكون شاعرًا كبيرًا أو مبدعًا عظيمًا أو أديبًا معروفًا ومشهورًا.. وأسهل منه أن تكون مناضلًا في بلد المليون مناضل، لكن من الصعب أن تكون إنسانًا، وكان المقالح إنسانًا.
وفي زمن التعددية الحزبية، حيث غدا كل حزب هو اليمن وهو الوطن، وحيث راح اليمنيون يتباهون بهوياتهم الحزبية: أنا مؤتمري.. أنا اشتراكي.. أنا اصلاحي.. أنا ناصري.. أنا بعثي.. أنا.. أنا.. صار من الصعب في هذا الزمن الحزبي اللعين، أن تكون يمنيًا، وأن تخلص لليمن، وليس للحزب، لكن المقالح ظل يمنيًا محبًا ومخلصًا لليمن إلى أن مات.
ومثل شجرة الإثاب في مدخل قريتنا، التي كانت تنشر ظلها على أهل القرية، وعلى المسافرين وعابري السبيل، كان المقالح الإنسان ينشر ظله على اليمنيين وغير اليمنيين، وكان وهو الخائف يمتلك ما سميتها "شجاعة الخوف". وبالرغم من خوفه من السلطة ومن التكفيريين قبل الوحدة، كان يحتضن اليساريين المغضوب عليهم، ويفتح لهم أبواب مركز الدراسات، ويحتضن كل أولئك الأكاديميين العرب الخائفين والهاربين من أنظمتهم الدكتاتورية، ويفتح لهم أبواب جامعة صنعاء وأبواب الرزق.
وفوق هذا، يستضيف كل أولئك الشعراء والأدباء والمفكرين من كل بقاع المعمورة، وكان الجسر الذي يصل اليمن بالعالم.
لكن الفرق بينه وبين شجرة الإثاب في مدخل قريتنا، هو أن التكفيريين كفروها، وبعد أن كفروها ضمرت وتساقطت أوراقها، ومن بعد قطعوها، فيما شجرة المقالح كانت تزهر بعد كل حملة تكفير. وفي قريتنا اليوم لم يعد هناك من يتذكر الثآبة، لكن المقالح الشجرة أصبح بعد موته غابة.