في ليلة كانت أشبه بمأتم صامت، حيث لا يُسمع إلا رتابة عقارب الساعة وصدى أفكاري المتزاحمة، قررت أن أجرّب حيلة لم تخطر لي من قبل: جلسة مصارحة مع قلبي. ليس من باب الفضول، بل لأنني كنت بحاجة إلى أن أشكره. نعم، أشكره على صموده أمام كل ما أُلقي على كاهله من آلام ومرارات، وعلى استمراره بالنبض، حتى وإن باتت كفاءته تحتاج إلى تدخل طبي عاجل بعد أن أنهكته الضغوط، وأكد الأطباء أنه بحاجة إلى قسطرة عاجلة. لم أكن أريده أن يشعر بالخذلان، رغم كل شيء، فقد صمد أكثر مما توقعت.
وضعت يدي على صدري وبدأت الكلام بنبرة مازحة:
"يا صديقي العزيز، كم أنت مدهش! لقد تجاوزت كل الحدود، لكن يبدو أن لكل شيء ثمنه. الآن، ونحن على مشارف القسطرة، أردت فقط أن أقول لك شكرًا على كل نبضة تحملتها. أعلم أنك مرهق، لكن ما مررنا به لم يكن عاديًا".
رد القلب، أو هكذا خُيّل لي: "أهذا ما لديك لتقوله؟ بعد كل شيء، تريد أن تشكرني على كفاءتي؟ بعد كل ما مررنا به، تتحدث عن الكفاءة؟ يا رجل، أنا هنا بفضل معجزة إلهية".
ابتسمت وقلت: "لا تغضب، أعلم أنني حملتك فوق طاقتك. لكن اعترف، لقد أثبتّ أنك بطل حقيقي. انظر كم صمدت في وجه الأزمات، تلك التي تأتي كالأمواج المتلاطمة. لم تكن مجرد ضغوط، بل كانت مواقف تفوق طاقة أي عضلة مهما كانت قوية".
أخذت نفسًا عميقًا وأكملت: "صحيح أن الضغط كان مهولًا؛ سنوات من اللاحرب واللاسلم، حيث لا طلقات تخترق الأجساد، ولكن كلمات وأفعال تخترق الأرواح. كل تلك الخيانات الصغيرة والكبيرة التي جاءت من أصدقاء ومقربين، كأنها خناجر مغروسة فيك مباشرة. أعلم أنك تعبت، ولكنك لم تخذلني.
هل تذكر تلك اللحظة التي كنت فيها بالكاد أتنفس من ثقل الصدمة؟ ومع ذلك، كنت نبضًا وراء نبض، تخبرني: لن نستسلم!"
صمت القلب للحظة، كأنما يستجمع ذكرياته، فتابعت:
"لكن يا رفيقي، الضغوط ليست فقط حربًا أو جبهات مشتعلة. لا الحرب حرب، ولا السلم سلم. نحن عالقون في منطقة رمادية، جحيم بلا نار. كثيرون سقطوا هنا، منهم من فقد حياته لأنه لم يتحمل، ومنهم من فقد صحته وأصبح عالة ومثار سخرية، ومنهم من فقد كرامته بالكامل، وصار يتسول إنسانيته بين الأنقاض".
هنا، شعرت بنبضة خافتة، وكأن القلب يطلب مني مواصلة الحديث. "دعني أخبرك عن الصحافة، يا عزيزي.. عن ذلك العالم الذي كان يومًا صوت المظلومين، كيف صار مستنقعًا للابتزاز والانتهاكات. زملاؤنا هُدّدوا، اعتُقلوا، وتشردوا، ونحن؟ كنا نحاول فقط النجاة.
أما المرتبات؟ فلا تسأل! أصبحت ذكرى بعيدة، مجرد وعود منمقة على شاشات التلفاز. أتذكر عندما كان الصحفيون يبحثون عن لقمة العيش؟ كانوا كمنقّبين في صحراء قاحلة".
اهتز قلبي بنبضة ثقيلة، كأنه يتذكر.
أحسست برغبة في البكاء، لكنني قاومتها، فأردفت: "تحول الصحفيون إلى أهداف سهلة، بينما كنا نحن نعيش في خوف دائم. خوف علينا وعلى أطفالنا، ونحن عاجزون عن توفير أبسط حقوقهم، ليس حياة كريمة بل الحق في الحياة ذاتها!".
تسارعت نبضاته قليلًا، وضعت يدي على صدري، كأنني أحاول احتواءه، وقلت بصوت متحشرج لا يخلو من الدعابة: "اهدأ، يا صديقي، لم أصل إلى الجزء المثير بعد".
شعرت وكأن قلبي يرمقني بنظرة..
"اهدأ يا صديقي، لا أريد أن أزيدك تعبًا. لكن عليّ أن أكمل. هل تذكر كيف تحولت الحرب إلى ماكينة لا ترحم؟ لا تفني فقط الأرواح، بل تُنهك العقول، وتُبيد القيم. الناس هنا لم يعودوا هم الناس. كل شيء تغيّر.
الشحن المذهبي والطائفي صار هو الوقود. الأحزاب تُشحن ضد بعضها وكأننا قطع شطرنج في يد لاعب أعمى. كل واحد منا صار متهمًا بالخيانة، حتى ولو لم يقل شيئًا".
تردد القلب قليلًا، كأنه يطلب تفسيرًا. فتابعت:
"أتذكر الجبهات؟ هناك حيث يُزج بالبسطاء للدفاع عن وطنية زائفة، وطنية بمقاس هؤلاء الذين يدفعوننا إلى الحروب من فنادقهم الفارهة في الخارج. يرسلون أبناءنا للموت، بينما ينشرون صور أبنائهم وهم يتلقون التعليم في أرقى الجامعات، أو يقضون إجازاتهم في منتجعات الأحلام".
تنهد القلب، وأحسست بنبضة ثقيلة تحمل استياءً مكبوتًا، فقلت: "أعلم، يا صديقي. هذا محزن، بل مخزٍ. لكن الأسوأ لم يكن هذا فقط. الأسوأ هو كيف أفرزت هذه الحرب مجتمعًا مليئًا بالجشع والريبة. رأيت كيف أصبح الناس يلتهمون بعضهم بعضًا، كلٌ يريد أن ينجو بنفسه، حتى لو دهس من حوله.
الصحافة؟ المجتمع المدني؟ كلاهما وقعا في قبضة شلل مستفيدة تستحوذ على كل الموارد، وكأنها قطيع ذئاب يحرس مائدة. حتى الحقوق الإنسانية، حيث تصارع هوامير العمل الحقوقي على المكاسب، ونسوا تماماً ما بدأوا به".
تسارعت نبضاته، كأنما يريد الصراخ، لكنني سارعت لتهدئته: هدِّئ من روعك، يا عزيزي. أريدك أن تفهم أنني لا ألومك على تعبك. كيف لي أن ألومك، وأنا رأيت ما رأيت؟ رأيت النخب السياسية تعبث بمصيرنا، تطيل الأزمة لأنها تدر عليها ملايين الدولارات.
رأيت في الحرب مشاهد عجيبة!
شعرت بنبضة سريعة، كأنما يحاول مقاطعتي، لكنني أكملت بابتسامة ساخرة:
"أما تتذكر ذلك العائد من الجبهة، بشعره الكثيف كغابة مهجورة، يحمل جعبته وسلاحه كأنه بطل من زمن آخر؟ رأيته يهرع ليرفع حذاءً مقلوبًا مرميًا في الشارع. كل ما كان يشغله أن الحذاء كان موجهاً للسماء، لأنه يعتبره إهانةً للسماء، بينما قد يكون هو قد أهان الأرض وسكانها بما ارتكبت يداه".
شعرت بنبضه يخف قليلاً، كأنه يبتسم بسخرية، فأضفت:
"وماذا عن أولئك الذين أصبحوا أغنياء بين ليلة وضحاها؟ ثم نظروا إلينا، نحن البسطاء، بازدراء. هل تعلم يا صديقي؟ نحن، رغم بؤسنا، أكثر فهماً للحياة منهم. نحن نراها أكبر من مجرد عقارات أو حوانيت أو سيارات فارهة. نراها كرامةً وعدالةً وإنسانية".
صمتُّ للحظة، ثم وضعت يدي على صدري وهمست:
"شكراً لك يا قلبي. شكراً لأنك صمدت كل هذا الوقت. القسطرة ليست نهاية الطريق، إنها محطة. سنخرج منها أقوى، أنت وأنا، لنكمل هذه الرحلة العبثية في وطن يصرّ على اختبارنا كل يوم. لا تستسلم يا رفيقي، فأنا بحاجة إليك، وأنت بحاجة إليّ".
أحسست بنبضه يجيبني، كأنه يقول: "لن أستسلم، لكن لا تخذلني أنت أيضًا".
وضعت يدي مجددًا على صدري، كأنني أعده بوعد أخير، وقلت: "يا صديقي، الحوار بيننا لم ينتهِ بعد. هذا مجرد فصل أول من حكاية طويلة سنكملها معًا. إن كتب لي الحياة بعد القسطرة، سأعود لأستكمل الحديث معك، لأروي لك بالتفصيل ما رأيته أنت وشعرت به.
سنتحدث عن كل ما جرى في ظل هذه الحرب: عن المواطن المغلوب على أمره، عن الأطراف التي تسابق بعضها في تحميله الأعباء، وعن الوطن الذي صار ساحة مفتوحة للألم والضياع".
تنهدت، وشعرت بنبضه يتباطأ كأنما يستعد للراحة، ثم أضفت: "لا تقلق، يا رفيقي. سنروي كل شيء، ليس لأننا نبحث عن عزاء، بل لأننا نرفض أن تُدفن الحقيقة بصمت.
إلى لقاء قريب، في الحلقة الثانية من هذا الحوار، حين نعود أنا وأنت لنكمل رحلتنا مع هذه الحياة المليئة بالوجع، ولكن أيضًا بالأمل".