يبدو أن قدر الإنسان في هذه المنطقة من العالم، أن يظل يتدرب على التعايش مع الفوضى كواقع يومي. تنطفئ في لبنان، وتشتعل في سوريا، وكأن جهاز تحكم بيد قوة غامضة تقرر متى تهدأ هذه الجبهة ومتى تتحرك تلك.
بالعودة إلى الشأن السوري، أصبح المتابع يتعامل ببرود ولا أقول بحياد مع ما يجري في بلاد الشام، لأن الحياد يفترض النظر إلى أطراف الصراع من مسافة واحدة، بينما البرود لا يحفل بأي طرف، ولا يهتم بمن ينهزم ومن ينتصر، لأن السوريين سلطة ومعارضة استطاعوا تعريف العالم بالمزاج الشامي الذي يبدو أن الآخرين لم يستسيغوا منه سوى ما ينتجه من أطباق شهية، أما ما يطبخه السوريون لأنفسهم من مآزق وورطات معقدة، فإنها باتت من الشؤون التي تستغلها كل القوى لمصلحتها دون أي اعترض أو قلق، لا من السوريين ولا من العالم الذي اختبر الشخصية السورية، وأدرك أنها الأكثر جرأة في التماهي مع الفوضى إلى أبعد مدى، إلى حد الذهاب إلى تجنيد كل المفاهيم التي تبرر صناعة الخراب وتعميق القعر الذي سقط فيه الجميع، سلطة ومعارضة، أو بالأحرى المعارضات التي ترفرف على رؤوس قادتها أعلام التطرف وحزمة الولاءات المتشعبة.
يمكن اعتبار البرود الذي يتلبس المتابع تجاه المشهد السوري نتيجة حتمية لتراكم خيبة الأمل والتجارب الفاشلة التي لم ينجح عبرها العالم إلا في استغلال كل الأطراف لمواصلة العبث، فلا النظام سارع إلى ابتكار حلول تسحب البساط من تحت المناوئين الذين لم يرتقوا إلى هذه المرتبة، ولا المناوئون استنبتوا من بينهم حالة تقنع الآخر بالنظر إليهم بوصفهم قوى حديثة وبريئة من استثمار الصراع الذي تحول إلى معمل سياسي وعسكري واجتماعي يريد له المستفيدون الاستدامة بإبقاء الأمور عالقة في المنتصف.
وبعد سنوات من الصراع الذي يسخن ثم يبرد، أثبتت جميع الأطراف السورية عجزها عن "إنهاء الطبخة"، ولم تطرح أي حلول واقعية، أو لم نسمع كمتابعين عن طرح من هذا القبيل، وما نسمع عنه أن الوضع جامد، تمامًا كما هو الحال في اليمن العالقة في حالة اللادولة.
يقول المحللون إن سوريا تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى الفاعلة في الإقليم، وتتنافس على بسط نفوذها، وفي المنتصف يدفع السوريون الثمن غاليًا، مع وجود فصائل متناحرة وانقسامات مجتمعية جاهزة للطفو على السطح.
الدرس الذي يمكن استخلاصه من الساحة السورية، أن العنف يهيئ للمزيد من العنف. وهذه حقيقة تعيد فرض نفسها على الأرض، وبالتأكيد يستطيع الإنسان السوري الإسهاب أكثر من غيره في شرح سيكولوجيا الصراع في بلده، وما هي المنظومة السلوكية التي طورتها الفوضى، وإلى أين يمكن أن تفضي بالوضع بعد كل ما حدث ويحدث.