صنعاء 19C امطار خفيفة

كيف أثرت الحرب على عملية الطباعة والنشر

الكتاب اليمني.. أحد المغتربين

الكتاب اليمني.. أحد المغتربين
دار عبادي للنشر - منصات التواصل

في الـ16 من أكتوبر/ تشرين الثاني 2019، كنت في زيارة إلى بيروت، حين راسلني الصديق الروائي اليمني وجدي الأهدل، على بريدي في "فيسبوك"، يطلب مني خدمة؛ حمل 30 نسخة من كتابه القصصي "التعبئة"، والذي طبع في دار هاشيت أنطوان (نوفل)، ونقلها أثناء عودتي إلى اليمن. في نهاية الأسبوع، وهو موعد مغادرتي العاصمة اللبنانية، حرصت على التوجه إلى العنوان الذي مدّني به الروائي الأهدل، لإحضار حصته من الكتب، لكن كانت الأمور معقّدة أكثر مما توقعت.

 
ففي نفس الأسبوع سالف الذكر، اندلعت ثورة الـ17 من تشرين الأول اللبنانية، وأغلقت مجموعات الحراك الشبابي شوارع رئيسية وفرعية، ما جعل سائق التاكسي الذي أقلني، يرسم سيناريوهات عبور، تحتمل بعضها مضاعفة أجرة الوصول. كان يومًا غائمًا، لن أنساه، وينذر بانقلاب شتوي مبكر، وفي الطريق إلى قرية المكلس (تبعد 5 كيلومترات عن بيروت)، رأيت طريقًا مغلقًا بالإطارات المشتعلة أسفل أحد الجسور، ثم بعد وقت، وجدت نفسي أصعد هضبة إلى قرية وادعة، وتشبه الحلم.
ووفقًا لإشارة الوصول في شاشة غوغل ماب، لم يخض سائق التاكسي معي في أي تفاصيل، حول مكان مكتب الدار، واكتفى بإنزالي وأخذ أجرته. استغللت ما أنا عليه من التيه، فصعدتُ حاجزًا جانبيًا في الطريق المؤدي إلى القرية، وقعدت أتأمل هضبة مقابلة معشبة تحفها أشجار عالية، ثم انتبهت إلى أنني بصدد مغادرة لبنان، والعودة إلى اليمن، وأن الوقت قد لا يسعفني -بعد ذلك- للوصول إلى مطار رفيق الحريري.
سألت بعض المارة، واستغثت بالحركة الوئيدة للمركبات، لمعرفة مكان الدار، دون جدوى، حتى دلّني سائق تاكسي على فرع للمكتبة في الأسفل، بالقرب من كنيسة مارجرجس، وهناك استقبلتني موظفة في المكتبة، وعندما سألتها عن محررة الدار لأستلم منها نسخ كتاب صديقي الروائي، تراجعت حماستها، فعرفت أنها تريد أن تبيعني شيئًا أولًا. قالت لي إن مكتب الدار مغلق بفعل العصيان العام الذي فرضته الثورة، وأن ليس باستطاعتها إيصالي بأحد، لذلك وحتى لا أعود بخفي حنين، حققت رغبة الموظفة بشراء نسختين من الكتاب، إحداهما لي، والأخرى لصديقي الروائي، الذي لم يرَ مولوده الورقي بعد.
غادرت بيروت، وعدت إلى صنعاء، وفي الطريق إلى المنزل تشبث جندي في إحدى النقاط الأمنية بنسختي الكتاب، ظنًّا منه أن عنوان الكتاب، الذي يحمل صيغة تهكمية ساخرة: التعبئة، هو كتاب تعبئة حربي، ما استدعى مني بعض الوقت لتوضيح محتوى الكتاب المسلح، وقراءة بعض محتواه، ليتم السماح لي بإيصاله إلى صاحبه.
 

دار واحدة ومئات المثقفين

 
في العقد الأخير من القرن العشرين والذي يليه، تصدرت دار عبادي للنشر مشهد النشر الثقافي في اليمن. وتعرّف الدار نفسها على أنها تأسست في العام 1890 في مدينة عدن (جنوب البلد)، كأقدم مكتبة ودار نشر في الجزيرة العربية.
ولايزال جيل المثقفين التسعيني وحتى الألفيني، يتذكرون مرورهم على الباحث الزراعي نبيل عبداللطيف عبادي، حفيد مؤسس الدار، للاستعانة به في إصدار كتبهم، بعد أن انتقل بمكتبته وداره إلى عاصمة الوحدة اليمنية، صنعاء، مقابل مبالغ مالية تراعي الوضع الاقتصادي المتواضع للبلد.
في أبريل/ نيسان 2008، قال نبيل عبادي في تصريحات للصحفي الثقافي أحمد الأغبري، إن داره أصدرت ما يتجاوز 1600 عنوان، وهو رقم فلكي، لو نظرنا إلى طبيعة الثقافة والمثقفين، والظروف السائدة في تلك الفترة.
وبرغم الانتقادات التي وجهت للدار، حول مسألة جودة المحتوى، وكذلك المعايير المتدنية للطباعة، تعرضت، في العام 2002، للإغلاق، بعد دعوى قضائية رفعتها وزارة الثقافة اليمنية ضد مالكها، وكاتب رواية "قوارب جبلية"، الروائي وجدي الأهدل، الذي طبع روايته عن طريقها، ما فجّر أزمة ثقافية كبيرة، وصلت إلى تهديد حياة الروائي، وإجباره على اختيار سوريا منفى إجباريًا له. أسقطت الأحكام القضائية، في النهاية، عن الدار والروائي، بوساطة الأديب الألماني غونتر غراس، الذي زار صنعاء في نهاية العام 2002، لكن ما مصير الدار بعد ذلك.
استمرت دار عبادي بالعمل حتى العام 2014، وإن بزخم أقل، ثم توقفت بفعل أزمة المشتقات النفطية التي ضربت البلد. وفي العام 2015، أقام نبيل عبادي، بالتعاون مع وزارة الثقافة المسيطر عليها من قبل جماعة أنصار الله (الحوثيين)، معرضًا لنسخ الكتب التي تبقت بعهدته، من سنوات الطبع، في معرض بإحدى المصالح الحكومية الخاصة، للتخلص مما بدا ميراثًا ثقيلًا، وغير ذي قيمة، في ظل حرب، لم تبقَ للثقافة والمثقفين شيئًا.
 

صنعاء عاصمة الثقافة.. الاستثناء الوحيد

 
في عام 2004، تم إعلان صنعاء عاصمة للثقافة العربية، ما جعلها سنة استثنائية بالنسبة لطباعة الكتاب والفعاليات الثقافية. وتولت وزارة الثقافة، حينها طباعة أكثر من 500 كتاب لمؤلفين ومؤلفات يمنيين على حساب الوزارة، لكن الإنفاق الباذخ للفعاليات الثقافية والترضيات الشخصية، قوبل بانتقادات أيضًا.
ففي حين ورثت الوزارة بعد هذا العام ديونًا بالدولار الأمريكي لدار نشر لبنانية تولت طباعة كتب العاصمة الثقافية، خصص إنفاق ضعيف على البنية التحتية، عوضًا عن كون تكلفة طباعة الكتب، كان من شأنه شراء آلات طابعة متطورة، قد تسهم في عمل ديمومة لمسألة نشر الكتاب الثقافي.
ولأن هذه السنة مرّت مثل حلم، حرصت الدولة على ألا يتكرر هذا الكرنفال، لأنه ألقى الضوء على بعض الشخصيات التي قدّر لها النجاح في تسيير الفعاليات والأنشطة، ولذا انحسر الدعم الحكومي لطباعة الكتاب، وعادت وزارة الثقافة لممارسة وظيفتها الروتينية في كونها لا تفعل شيئًا، لكن بعض المؤلفين كانوا يستفيدون من بند في اللائحة الحكومية يلزم المكاتب الحكومية شراء نسخ من الكتب بأسعار تشجيعية، ما دفعهم إلى مواصلة التأليف والطباعة.
أٌقرّ قانون حماية الحقوق الفكرية، في العام 1994، لحماية حقوق المؤلفين والمخترعين، لكن قليلًا من اليمنيين استطاعوا الاستفادة من حقوق التأليف بفعل اجتياز سمعتهم الأدبية حدود البلد إلى الإقليم. يُذكر هنا الشاعر والمؤرخ اليمني عبدالله البردّوني، الذي كرّس حياته للكتابة والتأليف، وعاش من خلالهما.
القانون بحد ذاته، لا تشوبه الكثير من العيوب، بل يذهب صراحة للحديث عن مكافآت المؤلفين، وحقهم في الاستفادة من أعمالهم، لكن صناعة الكتاب ظلت من الصناعات المتخلفة في البلد، بسبب تدني الإقبال على التعليم، وعدم وجود تقاليد تشجع القراءة وبالتالي التأليف، لذلك أرست مؤسسات طباعة ونشر الكتاب قوانينها، القائمة على مطالبة المؤلفين الدفع نظير الطباعة والنشر، عوضًا عن عدم استفادتهم من المبيعات الضئيلة التي قد تحققها كتبهم.
وحتى الشاعر البردّوني (توفي في أغسطس/ آب 2009)، واجه إرثه بعد موته مأزقًا كبيرًا، بعد مصادرة مخابرات الدولة لمسودات أعماله غير المنشورة، ووقوع جزء منه في أيدي ورثة رأوا فيه فرصة للإثراء. وبدلًا من أن تقوم الدولة نفسها بشراء هذا الميراث الفكري، وإتاحته للرأي العام، مثّلت الحلقة الرئيسية في انتهاك حق المؤلف، على أن البردّوني كان يقوم في حياته بدعم جميع أعماله لتصل إلى يد كل القراء، وهو ما أكسبه شعبية كبيرة.
 

اغتراب الكتب

 
شهد الكتاب الورقي اليمني، في السنوات العشر الأخيرة، حالة من الاغتراب والهجرة، لا تقل عن التي يعانيها المؤلفون اليمنيون أنفسهم، سواء في الداخل أو في المهجر، إذ توقفت عملية النشر في الداخل، على ضآلتها، واتجه بعض الكتاب عوضًا عن ذلك للنشر في الخارج، وسط حالة اقتصادية متردية، واشتراطات مجحفة، تمنع تحرك الكتب وتداولها تداولًا طبيعيًا.
ومع أن الحرب اندلعت في اليمن خريف العام 2014، وحركة نشر الكتاب الورقي في اليمن، لم تكن في أفضل حالتها، إذ سجلت دراسة عن حركة النشر في اليمن، صدور 69 كتابًا فقط، من العام 1995 إلى العام 2000، عن الهيئة العامة للكتاب الحكومية، و383 كتابًا فقط عن القطاع الخاص في نفس الفترة، لكن الصراع المحتدم، والذي لاتزال تعيشه البلاد، أتى على كل شيء.
وبحسب آخر إحصائية ثقافية يمنية رسمية نشرت في مطلع العام 2015، بعد أسابيع من سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) على السلطة بالقوة، أشارت إلى تراجع حاد في عدد الفعاليات الثقافية داخل البلد، وصل إلى النصف، لكن بعد هذا التاريخ، أي بعد تدخل التحالف العربي في مارس/ آذار من نفس السنة، توسع النزاع المسلح، فانتهى كل شيء، بما في ذلك دور النشر التي كانت تتولى طباعة الكتاب وتوزيعه.
وبسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية، ضَعُفَ المنتوج الفكري والثقافي، إذ توجه الكثير من المؤلفين إما للعمل العضلي، أو واجهوا بطالة محضة أثرت على ظروفهم النفسية، ما دفع البعض إلى عرض مكتباتهم الخاصة للبيع، عوضًا عن كون الكثيرين عانوا من علل عضوية لم يستطيعوا معها تحمل تكاليف علاجهم.
ويمكن قراءة واقع الثقافة والنشر، من خلال تصريحات رئيس الهيئة العامة للكتاب التابعة للحكومة المعترف بها دوليًا، يحيى الثلايا، والذي يقول إن هيئته و"هي الجهاز الحكومي المعني بتنفيذ السياسات الثقافية للدولة في مجالات الكتاب والمكتبات والنشر والتوزيع ومعارض الكتب والترجمة، لكنها ليست استثناء من مؤسسات الدولة التي أصابها الشلل في اللحظة الراهنة، ولاتزال الهيئة حتى اليوم تبحث عن موازنتها في وزارة المالية".
 

رحلة كتاب

 
في بداية العام 2019، كنت أبحث في الرحلة الإيطالية لإمام اليمن أحمد حميد الدين (تولى الحكم من 1948 إلى 1962)، عندما صادفت في طريقي بائع كتب أرصفة، منحته رقم هاتفي للتواصل معي في حال العثور على نسخة من مذكرات طبيب إيطالي شهد على هذه الرحلة، وسجل تفاصيلها.
بعد أسابيع قليلة، رن هاتفي، فإذا هو الكتبي، يخبرني بعثوره على كتاب يخص الرحلة. توجهت إليه مباشرة في ميدان التحرير وسط العاصمة، لكن وبدلًا من إعطائي كتاب الطبيب الإيطالي، قدّم لي كتابًا آخر بدا من الندرة بمكان. كان نسخة مجلدة وعتيقة من مذكرات أحد أفراد بعثة الإمام أحمد، يدعى محمد أحمد الشامي، ولأن نسخة الكتاب تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، بعيد الرحلة بأشهر، رفض البائع إلا أن يضاعف سعرها.
ما يلفت الانتباه في الكتاب، إلى جانب عتاقته، هو ملكيته لأحد بيوت من يعرفون بـ"السادة"، من خلال الختم الأزرق عليه، ويبدو أنه بيع من مكتبة خاصة. أحد الأصدقاء المطلعين على هذه الأسر، قال لي إن الكتاب قد يكون بيع من قبل ورثة مالكه، تحت ضغط الظرف الاقتصادي للبلد، أو أنه وقع في أيدي بعض المسلحين، الذين سيطروا على السلطة بعيد العام 2014، فباعوه إلى بسطات الشوارع.
لذلك، تحفل آخر مكتبة لي جمعتها من شوارع العاصمة صنعاء، بعشرات العناوين التي تحمل كثير منها توقيعات خاصة على الصفحات الأولى لمثقفين وسياسيين وقادة رأي، ما يجعلها مشروعًا لقصصٍ عن مالكيها الذين عددت الحرب من أسبابهم للتخلي عن هذه المكتبات، إلى الدرجة التي أصبح فيها امتلاك مكتبة، عبئًا ثقيلًا على أسر لم تعد تستطيع توفير سبل للحصول على لقمة العيش.
في بداية مايو/ أيار 2014، هدد المؤلف الأكاديمي البروفيسور عبدالواسع الحميري، بإحراق مؤلفاته البالغة نحو أربعين كتابًا، أمام بوابة القصر الرئاسي، في مدينة عدن، بعد أربع سنوات من مساعيه الحصول على راتبه التقاعدي، دون جدوى.
وقال الحميري، في صفحته على "فيسبوك"، إن هذا الفعل يجب أن "يشهد على معاناة اليمنيين ومثقفيهم في هذه الأوقات العصيبة"، مهددًا أنه "إذا لم يتم الاستجابة لمطالبه، سيبدأ مرحلة جديدة من الاحتجاج للمطالبة بحقوقه عبر المحاكم ومنظمات حقوق الإنسان وحتى حقوق الحيوان".
قبله بسنوات قليلة، وبالتحديد في النصف الأول من العام 2018، عرض رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين فرع صنعاء، الشاعر المعروف محمد القعود، مكتبته الخاصة للبيع.
وقال القعود في إعلانه، هذا: "لأن المعاناة لم تعد تطاق، ولأن الظروف القاسية التي نعيشها في وطننا الحبيب والمكلوم تواصل غرس أنيابها ومخالبها في أجسادنا وأجساد أطفالنا"، متابعًا بالقول: "قررت أنا المدعو محمد القعود المصاب بلعنة الثقافة، بيع مكتبتي التي تحتوي على ما يقارب ثمانية آلاف كتاب في مختلف مجالات المعرفة والثقافة.. والكتب 20 بالمائة منها في مكتبة سكني، و80 بالمائة في مكتبة خاصة بي خارج المسكن".
وأوضح أنه قرر بيع مكتبته لتسديد بعض الديون التي تراكمت عليه، وفي مقدمة ذلك إيجار الشقة التي يسكن فيها، ثم أضاف: "أصبحتُ مهددًا بإخراجي منها خلال الأيام القادمة، لعدم تسديد إيجارها منذ ما يقارب العام".
وفي بداية ديسمبر/ كانون الأول 2022، أصيب القعود بجلطة دماغية، أدخلته إلى طوارئ أحد مستشفيات العاصمة، وبعد مناشدات ودعوات، على مواقع التواصل، لإنقاذ حياته، تكفلت الناشطة المعروفة توكل كرمان، بمنحة علاجية له في العاصمة المصرية، القاهرة.
حالة الحصار التي طوّقت البلد، انسحبت أيضًا، ليس على التأليف، وإنما أيضًا على دخول الكتاب بشكل عام إلى اليمن. وكانت في أوقات ما قبل الحرب، تصل صحفًا ودوريات سياسية وثقافية، ومن ذلك إصدارات المجلس الوطني الكويتي للثقافة والفنون والآداب، مثل عالم المعرفة، وإبداعات عالمية، لكن ومنذ نهاية العام 2014، توقف كل شيء.
وفي محاولة لكسر هذا الحصار، ومواكبة الإصدارات العربية الحديثة، استفادت بعض المكتبات المعروفة من قنوات تحميل الكتاب الإلكتروني، لطباعة نسخ مقلدة من كتب دور النشر العربية المعروفة، مع ذلك، حتى هذه الكتب تلاقي كسادًا، وضعفًا في الإقبال عليها، وبخاصة بعد العام 2020، والذي شهد انتشار فيروس كوفيد-19، وارتفاع في أسعار الورق، والشحن، وبالتالي، ارتفاعًا في تكلفة طباعة الكتب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً