"يمكن أن تكون المجتمعات جاهلة، ولكن الأخطر من ذلك أن ترى جهلها مقدسًا"برتراند راسل..
**
مع الألفية الثالثة، 2009، وفي الطريق الطويل من تعز إلى صنعاء، أوقفنا سائق السيارة الأجرة التي تقلنا، عند مطعم لتناول الإفطار، آنذاك حيّاني أحد اليافعين بسحنته السمراء الأليفة، بحيوية وابتسامة واسعة تشع مع صباح ربيعي وصبح وجهه الطفولي الذي لم يتجاوز عمره الخامسة عشرة آنذاك، تجاذبنا أطراف الحديث، قال لي بابتهاج: إنه آتٍ من قريته البعيدة في نواحي الحجرية -تعز بعد قضاء عطلة العيد عند أسرته، وسيرجع إلى دماج -صعدة لاستكمال تعليمه الديني، وأضاف قائلًا: أتعرفين أن القائمين على التعليم في دماج، بجانب الدراسة، يؤمنون للطالب -مثلي- المسكن والمأكل والمشرب، ومصروف جيب و... الخ من الامتيازات، والله كأنني خلقت وعشت معهم وبينهم، إنهم أهلي وأسرتي وعشيرتي.
استغربت من كلامه، فكيف لهذا الطفل/ اليافع أن يقطع كل هذه المسافات الطويلة ليتلقى التعليم الديني -المذهبي/ السني (الوهابي) المتطرف، مخلفًا آلاف المدارس في اليمن، ليلتحق بمعهد دماج في أقاصي اليمن، وعلى تخوم المملكة العربية السعودية (الشقيقة).
كان المعروف في الخارطة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في اليمن على مر التاريخ الحديث، أن الكثير من أطفال اليمن يرتحلون بسبب الجوع والفقر المزمنين، من الأرياف إلى المدن أو الدول المجاورة، طلبًا للرزق وإعالة أسرهم، خصوصًا إلى عدن، وصنعاء، والحبشة، والسعودية... الخ، قلة حد الندرة يسافرون لطلب العلم الديني في زبيد أو حضرموت.
لكن الترحل إلى صعدة -دماج، وفي الألفية الثالثة، كان مثيرًا للدهشة والفاجعة معًا. وكان لديّ معرفة، من خلال متابعة الحروب الست في صعدة، ماذا تعني "دماج" و"معهد دماج العلمي"/ "دار الحديث"، الذي بُني 1979، وقام على التعليم العقائدي -المذهبي المتعصب والمتطرف، التابع للإخوان المسلمين وجناحه السلفي، ومؤسسه مقبل الوادعي، الذي اشتهر في المملكة العربية السعودية لارتباطه بقضية جهيمان والأحداث الدامية في المسجد الحرام، نوفمبر 1979... الخ. إذ كانت الأسر اليمنية التقليدية وأيضًا المتشددة مذهبيًا، وخصوصًا القبايل، ثم الأحزاب الإسلامية كالإخوان المسلمين -حزب التجمع اليمني للإصلاح- ترسل مجاميع الأطفال والشباب إلى تلك المعاهد الكثيرة والمتناثرة في الأرياف والمدن، بما فيها العاصمة صنعاء، وذمار، وتعز، وحضرموت... الخ، ليستقبلهم الدعاة والشيوخ الإسلاميين، وفي صدارتهم الشيخ مقبل الوادعي، ويحيى الحجوري، وعبد المجيد الزنداني، وعبدالوهاب الديلمي، وغيرهم من المشايخ والفقهاء، الذين كانوا يصولون ويجولون بين قبائل اليمن لعرض مشاريعهم (العلمية) ومراكز التدريب الصيفية المعروفة لاجتذاب أبنائهم للدراسة في أوكار "دار الحديث" وغيره من الدور الدينية والمذهبية المشهورة، بما فيها الدور الزيدية -الشيعية لاستخدامهم بعد ذلك وقودًا للحروب البينية باسم "حماة، نقاء العقيدة" زاد هجيجها الدامي عبر الأعوام 2011-2014-2015، وصولاً إلى اليوم 2024، بتمويل من قبل المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات، وقطر، وإيران... الخ.
ففي حين يعملون على تجفيف منابع الإرهاب في بيئاتهم لتزدهر الحياة، يثابرون على تخصيب البيئة اليمنية الحاضنة للتطرف والإرهاب من قبائل ورجال دين وعسكر... الخ.
**
في 2011 إبان احتجاجات الربيع العربي، وفي ساحة التغيير بصنعاء، التقيت مرة ثانية، ذاك اليافع الذي تعرفت عليه بالمطعم في مدينة ذمار، وقد أصبح شابًا، نعم لقد كبُر والتحى، ولم أعرفه، بل عرفني بنفسه، واستغربت أنه يعرفني. لقد كان منظمًا لساحة التغيير بصنعاء برتبة "ثائر"، حياني، وذكرني باللقاء حين كنا رفقة سفر في سيارة الأجرة من تعز إلى صنعاء، وبحماس، قال إنه الآن حان دوره، وأنه آتٍ لإسقاط النظام، وإعلاء كلمة الله، وإقامة الخلافة الإسلامية، ليس في اليمن، بل وفي العالم!
كنت أقرأ عن محمية دماج -وادعة، أو ما يطلق عليها "قلعة السنة"، وأنها ثكنة لاستقبال المجاهدين المحليين والقادمين من الخارج بالمئات، وأحيانًا مع عائلاتهم، حيث يتلقون تعليمهم وتدريباتهم العسكرية، ويتأهلون للحروب الدينية، كما يقولون، لإعلاء كلمة الله، والقتال ضد المرتدين الشيعة/الرافضة والبدع والضلالة وانحراف المجتمع، ومن ثم تصديرهم للقيام بعمليات جهادية، في اليمن والعالم.
بل شاركوا في القتال الدائر بين الحوثيين وأهل دماج، حيث سقط المئات من القتلى اليمنيين والأجانب، وتم تهجير الآلاف، بحسب المصادر والتقارير الإخبارية.
... في الموضوع التالي سأتطرق لزيارتي للمعهد الدماجي في 2014.