صنعاء 19C امطار خفيفة

عَيْشْ وَمِلِحْ

ها هو الآن يراها بعد مضي ما يقرب من عقدين من الزمن بأنوثتها الطاغية، وجمالها القاهر. عيناها الهجينتان، وشعرها الأسود كقطع الليل المظلم ينساب باختيال ومرح وزهو، وابتسامتها الواثقة الجَوَّابَة.
 
 ليغفر الله لذلك البغل الحرون أو الجحش الملعون-لو أنَّ ذلك الذنب مما يغفره الله!؛ فقد رآها لأول مرة في النادي الأدبي. كان حينها جالسًا في المكتبة منشغلاً بقراءة كتاب تافه حين دخلتْ ومعها وجبة إفطارها.
 
لم يكلف نفسه حتى مجرد النظر إليها. كان أوانذاك يؤمن بنظرية «الزُّرَاط المستقيم». ما ثمَّ غيرها، ولا في جُبَّته سِواها.
 
الآن أدرك لماذا كان يكره دروس الكيمياء وكل ما يتعلق بها من خلط، وسبك، ومزج، وصهر.
 
ألا فلتبقَ العناصر كما هِيَ محافظةً على أصولها الأولية، ولونها الواحد النقي، لا تشوبها هُجنة ولا يلحقها مَسبَّة ولا عار. هذا هو الشرف العظيم، والعز الأكبر.  
 
كان مجرد التفكير في تحول الحمار إلى حصان جامح يرعبه، ويضعضع أركانه، فيصاب على إثره بمغص شديد، وإسهال شبيه بذلك الإسهال الذي ينتاب الأطفال.
 
كيف يمكن للحمار أن يتحول إلى حصان، وكيف لمن لا يجيد السباحة أن يصير رُبَّانًا؟!
 
إنْ هي إلا أباطيل وأحاديث زور. أليس هذا تغييرًا لأصل الخلقة، وتطورًا وارتقاءً لا يليق بمعتقداتنا القويمة وملتنا المعتصدة؟!
 
 في حقيقة الأمر كان هذا الجحش أو حتى الحمار معتدًّا ومستغنيًا ومكتفيًا بكل الأوهام التي حشاها في رأسه والتي كانت تستطيع أن تجيبه عن كل شيء بأسرع مما قد يفعله المحرك القدير «جوجل»، بمجرد طرح السؤال عليه.
 
يا لها من طريقة سهلة ومختصرة وغير مكلفة! إنَّ لكل سؤال جوابًا، ولكل مقامٍ خِطابًا.
 
كانت معتقداته التي تعشعش كدبابير في رأسه هي «رأس المال» الذي ظل يكنزه وينميه في القبو كتاجرٍ يهودي؛ هي كل ممتلكاته التي لم يفكر يومًا أن يفرط فيها أو يتنازل عنها.
 
هل كان مُنوَّمًا مغناطيسيًّا حين رآها في النادي الأدبي في ذلك الصباح، وألقت عليه التحية، ودعته لمشاركتها وجبة الإفطار -فاعتذر-؛ قائلةً برقةٍ ومَكْر متناهيين: تفضل.. عَيْشْ ومِلِحْ!!
 
الآن ثابَ إليه رشده، وانكشف عنه غطاؤه حين رآها، ونظر إليها ببصر حديد كما لم ينظر من قبل. رآها بعين قلبه، حين فاته أن يراها بعينيه الحمقاوتين.
 
لم يملك حين أبصرها إلا أن «يقعي بفمه»، ويخرج لسانه في محاكاة لجده التهامي؛ ذلك الشيخ الكبير المُعمَّم والمُقمَّص صاحب الرداء الأخضر والسَّحْنَة السمراء، حين يزور صنعاء، ويرى فتياتها البيض الأماليد؛ فيتواجد ويصيح صيحةً مُنْكَرة يكاد تنشقّ لها مرارته: آه ه ه ه ه ه ه ه ه ه!

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً