صنعاء 19C امطار خفيفة

ضي البصيرة

ضي البصيرة
لوحة للفنان وجيه يسى- الصورة من إرشيف الكاتبة
في معرضه الأحدث “ضي القمر”، الذي أقيم في قاعة “أوديسي” في الزمالك، قدم الفنان الكبير وجيه يسى مجموعة كبيرة ولافتة من الأعمال الفنية، والتي بدا واضحًا من خلالها أنه يجدد محترفه التشكيلي ومساره الفني، مبتعدًا على نحو ما عن التشخيصية وفن البورتريه اللذين اتسم بهما أسلوب الفنان لسنوات، فقبل ذلك بلور الفنان طابعًا ذاتيًا طوره في مراحل متعددة، لا يقوم على التشخيص الواقعي المفرط في صيغه الإنشائية، بقدر ما يعتمد على تعبيرية اللون، والتقاط اللحظة المنبجسة من شعور المصور بالمشهد، ومن ثم بنائه وفق خارطة بصرية تتزاحم فيها البقع اللونية بحرفية عالية، لتؤسس جغرافيا الوجوه الإنسانية المشبعة بالقيم الوجدانية، وبحيوات صاخبة مبعثها استغراق الفنان في قراءة الملامح الإنسانية وتضاريس الجسد، والغوص في دواخل البشر، متلمسًا ما يعتمل فيها من انفعالات ومشاعر وتناقضات، ليبرز الإنسان في خضم اشتغالاته بطلًا أوحد ينفرد بالأحياز المتاحة، ويضفي عليها كافة حالاته والتباسات وجوده.
 
الفنان وجيه السي ود. آمنة النصيري - الصورة من إرشيف الكاتبة
غير أن المصور وجيه يسى في “ضي القمر”، يفاجئ المتلقين بتحول فارق، إذ يخوض في حقل جمالي وفني هو الأكثر جدة في تجربته، متجاوزًا التعارض النسبي بين التشخيص والتجريد، منتقلًا إلى مستوى من التجريد التعبيري، حيث يبدو كأنه يتحرك في فضاء حر، فضاء لا تحفه التفاصيل، ولا تقيده المادة بكل ما لها من ثقل وحسية، لقد توخى البحث في الجمالي والتقني، واختبر أداءات جديدة خارج أسلوبه، متعمدًا الإمعان في البساطة وسلاسة الأداء، وتجسيد معنى الشكل من خلال اللغة اللونية فحسب، مستغلًا حساسيته العالية تجاه الإيقاعات اللونية وتوظيفها في تفعيل الديناميكية الجلية في هيئة الشخوص المتماهية في المسحة التجريدية، كونها ليست سوى ضربات طازجة بفرشاة الرسام، جعلت الأشكال والأجساد تحتفظ بحضور شبحي، إلا أنه حضور بهي تتخلله تشاكيل مبهجة تفصح عن عنفوان الحياة.
 
لوحة من أعمال الفنان وجيه يسي
إن جل النصوص البصرية في هذا المعرض تضعنا في حضرة مصور يدرك كيفية صوغ مشاهد تبتكر عوالم خلابة، تلج بالمشاهد في معارج سحرية تنضح بالألق وبالاندياح الغامر للألوان، وترسم تمثلات ونماذج أكثر جاذبية صارت الصور بمقتضاها استعارات فنية وجمالية لحالات الروح، فالألوان على درجة كبيرة من النصاعة، تتناوب بين التكثيف والتشفيف، كما أنها تهيمن على ما عداها من أدوات تشكيل الصور، لذلك تفيض بكل دلالاتها الرمزية  وطاقاتها التعبيرية، وهذه المعالجة تثير جدليات أو ثنائيات مختلفة كالحركة والسكون، والامتلاء والفراغ، والقتامة والبهاء، فعلى سبيل المثال الخلفيات السوداء والقاتمة شكلت تباينًا بين التكوينات الناصعة في المقدمة والفراغ المتناهي في السواد، إلا أن هذا الأخير تخلى عن رمزيته النمطية واستحال إلى عمق للوحات. اللافت للانتباه هو خلو الأعمال من مركز، فالألوان تعم السطوح التي قوامها خطوط لونية عريضة وضربات فرشاة سريعة، وهو ما يجعل الحضور البشري منفلتًا في كل الفضاء، وأبعد قليلًا عن السياقات الأكاديمية في بناء التكوين، ولعله من المهم القول بأن الفنان في “ضي القمر” يسعى بصورة حثيثة لاستخلاص موسيقى اللون، واستكناه الحركة الداخلية القائمة في الانشباكات اللونية التي تتراءى للوهلة الأولى كما لو كانت تشكلت بعفوية خالصة، بينما هي في الحقيقة وليدة فهم عميق لإنشاءات التكوين البصري، وللإصغاء لإيقاعات الوجود، كما هي نتاج لتلك الحساسية المفرطة في التعاطي مع التراكيب الصباغية، بالإضافة إلى إخضاع الفنان أداءاته للتراكمات الشعورية بالأشياء وبالكائنات، ولتخييلاته التي تجعل من التكوينات المنجزة تمثيلًا فنيًا جماليًا لعالم مفعم بالحلم وبالشعرية وبالسكينة والتناغم الهارموني وغيرها من الانزياحات الممكنة.
إن هذا المعرض للفنان وجيه يسى بمثابة حالة فنية (متعالية) على نحو إيجابي، على كل الاضطراب والفوضى واللاطمأنينة في العالم الفعلي
 
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً