صنعاء 19C امطار خفيفة

فلسطين الحق والعدالة والحرية

القضية الفلسطينية، التي كانت لعقود رمزًا للوحدة العربية والمقاومة ضد الاستعمار، تحولت تدريجيًا في الوجدان العربي إلى عبءٍ نفسي وسياسي على المواطن. فما الذي حدث لكي تصبح قضية عادلة، كانت تمثل البوصلة الأخلاقية للعالم العربي، عبئًا يثقل كاهل الفرد العربي، ويدفع البعض إلى النفور منها؟ وكيف تم فصل القضية عن شعوبها عبر خلق أعداء وهميين أثناء الحراكات الشعبية منذ عام 2011؟

 

القضية الفلسطينة- منصات التواصل

 

القضية الفلسطينية كعبء: بين الضغط والابتزاز

 
لطالما كانت فلسطين قضية العرب الأولى، حملها المواطن العربي في ضميره وسعى لأجلها، بيد أن التعامل السياسي مع هذه القضية اتخذ مسارات متناقضة جعلت الفلسطينيين أنفسهم، في بعض الأحيان، وسيلة للابتزاز السياسي. بعض الأنظمة العربية، وخصوصًا التي حكمت لفترات طويلة، استخدمت القضية الفلسطينية كأداة لتثبيت شرعيتها أو للتغطية على إخفاقاتها الداخلية. كانت فلسطين الشماعة التي يعلق عليها أي فشل داخلي، ويُقال للمواطن: "لن نتحرر من أزماتنا لأننا نحمل همّ فلسطين".
 
في هذه المعادلة، أصبح المواطن العربي يشعر أنه مضغوط باستمرار باسم فلسطين، دون أن يرى نتائج ملموسة في تحرير الأرض أو حتى في تحسين وضعه الاقتصادي أو الاجتماعي. في كثير من الأحيان، كان يُطلب من المواطن التضحية بحياته وظروفه من أجل قضية تبدو بعيدة المنال. وفي الوقت نفسه، يُلمَّح إليه أنه إن انتقد السلطة أو تحدث عن أوضاعه، فإنه يخون القضية ويخون الوطن. هذا الضغط المتراكم أدى إلى تحول طبيعي لدى البعض نحو النفور، ليس من القضية نفسها، ولكن من الطريقة التي يتم فيها تسييسها واستغلالها.
 

فصل القضية الفلسطينية عن الشعوب العربية: آليات الخلق المتعمد للأعداء

 
منذ عام 2011، ومع اندلاع الحراكات الشعبية في عدد من الدول العربية في ما أُطلق عليه "الربيع العربي"، شهدنا تحولات كبيرة في الخطاب السياسي والاجتماعي حول القضية الفلسطينية. كان هناك استثمار ذكي ومتعمّد من قبل بعض الأنظمة والقوى الإقليمية في تحويل انتباه الشعوب بعيدًا عن فلسطين، بل خلق أعداء جدد للفلسطينيين بين العرب أنفسهم.
 
أثناء هذه الحراكات، تكررت سرديات جديدة ومُوجّهة إعلاميًا، مفادها أن الفلسطينيين ليسوا سوى طرف انتهازي يستغل الحراكات الشعبية لصالح أجنداتهم الخاصة. تم اتهامهم بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، والاصطفاف مع قوى خارجية. في مصر، على سبيل المثال، عقب الثورة التي أطاحت بحكم مبارك، روجت بعض وسائل الإعلام لفكرة أن "حماس" والفلسطينيين تدخلوا في الأحداث الداخلية وأسهموا في نشر الفوضى. وفي سوريا، كان النظام يتهم الفلسطينيين بأنهم جزء من المؤامرة الكبرى عليه، بل تم توظيف بعض اللاجئين الفلسطينيين في معادلة الصراع هناك بشكل يظهرهم كأعداء للشعب السوري.
 
هذه العمليات لم تكن عفوية، بل هي جزء من مشروع سياسي أوسع هدفه فصل فلسطين عن وجدان الشعوب العربية، وإعادة تشكيل العدو الحقيقي. بدلًا من أن تكون إسرائيل هي العدو المركزي، أصبح الفلسطيني، في بعض الحالات، يُصور وكأنه تهديد داخلي أو خارجي. وهكذا، بدأت القضية الفلسطينية تتراجع في الوعي الجماعي للعرب كقضية مركزية، وبدلًا من ذلك، أخذت قضايا أخرى تحتل هذا المركز، مثل الحروب الأهلية، والصراعات الطائفية، والتهديدات الإقليمية.
 

تحييد القضية: بين الإقليمية والتطبيع

 
مع تزايد الضغوط الداخلية والخارجية على الدول العربية، بدأنا نرى موجة جديدة من التعامل مع القضية الفلسطينية، تمثلت في مسارين رئيسيين: الإقليمية والتطبيع.
 
الإقليمية: باتت الأنظمة والحركات السياسية في المنطقة تركز على قضاياها الداخلية بمعزل عن القضية الفلسطينية، معتبرة أن الصراع مع إسرائيل لم يعد أولوية، بل إن الأولوية الآن هي للبقاء والاستقرار. هذه الإقليمية عززت الانعزال الفكري والسياسي بين الدول والشعوب العربية، ودفعت بالبعض إلى الاعتقاد أن فلسطين أصبحت "قضية الفلسطينيين وحدهم".
 
التطبيع: أما التطبيع مع إسرائيل، فقد أضاف بُعدًا جديدًا للابتعاد عن القضية. أصبح التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل يتم بشكل علني، وبمباركة شعبية أحيانًا، حيث يتم تسويق إسرائيل على أنها شريك اقتصادي وأمني، بينما يُشيطن الفلسطينيون ويُظهرون بأنهم عائق أمام التقدم والتنمية.
 

الفلسطينيون: بين الأمل والخذلان

 
في خضم هذه التحولات، يعاني الفلسطينيون من شعور عميق بالخذلان من المحيط العربي. من جهة، يُستَخدمون كأداة سياسية بين الأنظمة، ومن جهة أخرى، يتم تصويرهم كأعداء داخل الحراكات الشعبية أو حتى كطرف غير مهم في النزاعات الإقليمية الكبرى. هذا الشعور بالخذلان ليس وليد اللحظة، بل هو نتيجة لتراكمات سياسية وعاطفية امتدت لعقود.
ورغم ذلك، لاتزال القضية الفلسطينية قضية حق تتجاوز كل هذه التناقضات. فهي ليست مجرد ملف سياسي يُتناول في الاجتماعات والمؤتمرات، بل هي رمز للصراع من أجل العدالة والحرية ضد الاحتلال والاستعمار. وعلى الرغم من محاولات التشويه والابتعاد، يبقى الشعب الفلسطيني مُصِرًا على صموده، ومن خلفه شعوب عربية لاتزال تؤمن بقضيته رغم التحديات.
 

خاتمة: هل يمكن استعادة فلسطين في الوجدان العربي؟

 
إن محاولة فصل القضية الفلسطينية عن الشعوب العربية عبر خلق أعداء وهميين أثناء الحراكات الشعبية، أو استخدام القضية كعبء على المواطن العربي، هي محاولات عابرة. فقد تكون هناك استراتيجيات ناجحة في اللحظة الراهنة، ولكن يبقى السؤال: هل يمكن حقًا فصل الإنسان العربي عن فلسطين؟ هل يمكن أن ننسى، في غمرة انشغالاتنا الداخلية، تلك الأرض التي تشكل جزءًا من هويتنا الجماعية؟
ربما، في نهاية المطاف، ستكون فلسطين أكبر من كل هذه المناورات. لأنها ليست مجرد أرض أو قضية سياسية، بل هي روح النضال في وجدان كل من يؤمن بالعدالة.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً