صنعاء 19C امطار خفيفة

عن فرج بن غانم.. له تمثال في قلوب كل الشرفاء

عن فرج بن غانم.. له تمثال في قلوب كل الشرفاء
فرج بن غانم- ريشة رقمية النداء
 

أحترم الدكتور فرج بن غانم، لأنه أتقن روحه ولم يخسرها. تستحضره الذاكرة لأنه الأنموذج الذي لن يتكرر.

 

كسر قاعدة الطاعة المرسخة للحاكم، إذ قال "لا"، ولم يعرف التأتأة، كما لم يكن من أنصاف المواقف، إنما ظل دائمًا يشير إلى وهننا الجمعي، فاضحًا لمكامن الخلل المريعة، وهي تعيقنا عن التقدم.

 

معلوم أن لا نجاة من التلوث في السياسة اليمنية، كما لا أفتك من القبليين العسكر وهم يحكمون الخناق على مزاوليها، وبالذات الشرفاء كيما يرضخونهم.

 

لكن بن غانم استطاع المفارقة عن إرادة هؤلاء، إذ قام بانزياحه الخصوصي، باطشًا بقيم ثباتهم اللعينة، وحائزًا على إجماع كل الوطنيين بأطيافهم المختلفة.

 

حين كان رئيسًا لمجلس الوزراء، على سبيل المثال، كان بإمكانه الثراء الفاحش، إذ كان له أن يتواءم مع معطيات آكلي كتف البلاد فقط. لكن شهوته ظلت مفتوحة على المبدأ والكرامة والصدق، وبكفاءته كواثق وعفيف -وهو ليس بإمعة بالمطلق - ظل يفضحهم واحدًا واحدًا بينما ظلوا يكيدون له.

فارقنا هذا الرجل بينما كانت اليمن في أشد الحاجة إليه، الرجل الذي تبوأ أرقى مراتب العلم والجسارة، في حين لم يستطع أحد تجييره سوى الصدق، منذ أن كان وزيرًا للتخطيط، وعضوًا في مجلس الشعب في دولة الجنوب قبل الوحدة، وكذا ما بعد العام 90م، كعضو بارز في البرلمان، ووزير للتخطيط أيضًا، مرورًا برئاسته للحكومة، ووصولًا إلى المندوبية الدائمة لدى المقر الأوروبي، ومن ثم الاتحاد الفيدرالي السويسري.

 

من محطة إلى محطة غرس مساعيه الأخلاقية في السياسة، ناشرًا المثل العليا في كيفية التعامل مع الناس، حتى بات طريقه ضوءًا لممكنات النهوض الحق في هذا الزمن المعتم والانحداري.

 

أخلص للمدنية وللشفافية، ولمقتضيات التنوير، كما نال بعقليته الاقتصادية الفذة ثقة المانحين والمجتمع الدولي، ولم يغدر بالناس، مخاصمًا لسياسة إبقاء الأمور على ما هي، باعتبارها المفضلة لدى الحاكم.

 

على أن بن غانم هو الذي لم يتحمد الحاكم، وإنما اجترح قطيعة مع الوضع السياسي المتصالح وخرابه.. كما مثل شوكة صريحة في حلق تغفيله للناس!

لقد امتلك قدرة الخوض ضدًا من السائد، إذ امتلك قدرة أن يكون هو. فوقف بحزم أمام الفاسدين معريًا وكاشفًا، كما استطاع أن يسكن ذروة كل الحالمين بيمن جديد.

 

لم يقبل أن يكون أراجوزًا في مسرحية تجويع الغالبية العظمى وإهانتهم وتركيعهم.. كما لم يرتضِ لنفسه القفز على حبال الواقع الرديء، ومنح الوعودات غير المحتملة، ولذا قدم استقالته المدوية والشهيرة كرئيس للحكومة، العام 97م.

 

حقق بذلك الحالة المتقدمة والمنشودة التي نجت من التطابق المقرف للقائلين نعم للحاكم.. ولم ينله الإذلال لأنه ظل مباليًا بالانعتاق.. كما أتقن البياض مصيرًا، ودام ذريعة للحالمين حتى لا يصيبهم الوهن.

 

هكذا لم يخن الناس ولم ينحنِ لسواهم، إذ ظل محتكمًا للمسؤولية في كل منصب تقلده، كما لم ينحدر إلى سوء الخداع أو الفهلوة، بل ارتفع إلى مصاف القديسين؛ عفيف اليد واللسان وشامخ الهامة.

 

إنه الحر الذي تمنى أن يأخذ اليمن إلى الغد.. لكنها فضلت المداومة بين أمسها وحاضرها، منتشية بناهشيها في أسوأ صورة -بالطبع- من صور الخنوع. كما أنه المقدام الصادق الذي دمر حاجز الخوف السميك بين عقل اليمني وقلبه، وليس بخافٍ عاطفية تمجيد غالبية اليمنيين لمستبديهم، بفعل قرون من حكم الفرد، دمرت فيهم خلايا الرفض للأسف.

 

ظلت النزاهة تدجج بن غانم وامتيازه الثبات.. كما ظلت ثقة النفس تسيجه، ولم يعرفه الخوف يومًا... له تمثال في قلوب كل الشرفاء بالتأكيد.. تشير إلى ذلك عشرات التجمعات في أنحاء البلاد أقامت عليه صلاة الغائب ثاني يوم من رحيله.

 بينما كان على كافة القوى الوطنية، وهي تنتظر جثمانه القادم من "جنيف"، أن ترميه بالورود ليس إلا. لقد مثل الدكتور فرج بن غانم ظاهرة ناصعة في المسار الموبوء للساسة اليمنيين المعاصرين، والكثير من التمجيد هو ما كان يستحقه.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً