صنعاء 19C امطار خفيفة

الانهزامية التاريخية كمحصلة للعجز البنيوي

عندما نتحدث عن الانهزامية التاريخية في السياق العربي، نحن لا نتناول مجرد شعور فردي أو محدود بالهزيمة، بل هي حالة متجذرة تنعكس في العقل الجمعي للأمة. هذه الانهزامية ليست وليدة اللحظة، بل تراكمت عبر قرون من الانكسارات، بدءًا من سقوط الأندلس مرورًا بالتفكك العثماني والاستعمار الأوروبي وصولاً إلى الحروب العربية الإسرائيلية. كل محطة من هذه المحطات التاريخية أضافت إلى هذا الإرث الثقيل الذي يجثم على صدر العرب.

 
الانهزامية التي نشأت في العالم العربي ليست مجرد نتيجة لهزائم عسكرية أو سياسية، بل هي محصلة لتآكل البنية الفكرية والمؤسسية. بعد فترة طويلة من الريادة الحضارية في العصور الإسلامية الذهبية، تراجعت الأمة بسبب ضعف المؤسسات التعليمية والثقافية وتراجع الفكر المستقل. أصبح المجتمع العربي يعتمد على أنظمة استبدادية تتحكم في المعرفة وتفرض القيود على الإبداع، مما أدى إلى تراجع الحس النقدي والعقلاني. 
 
في هذا السياق، تتولد الانهزامية ليس فقط من هزائم ميدانية، بل من شعور عميق بالعجز عن السيطرة على المصير. وعندما تواجه الشعوب العربية تحديات كبرى مثل الاحتلال الإسرائيلي، تجد نفسها في مواجهة واقع معقد يتطلب قدرات استراتيجية وثقافية لم يتم تأهيلها لمواجهة هذه التحديات. 
 

الاحتلال الإسرائيلي: رمز الانهزامية والمقاومة 

عند النظر إلى الاحتلال الإسرائيلي، يتضح أن هذه المواجهة ليست مجرد صراع جيوسياسي، بل هي تجسيد حي للصراع بين إرادة التحرر العربي من الهيمنة والانهزامية التي تعززها القوى الخارجية. في أعقاب حرب 1948 والنكبة الفلسطينية، شعرت الأمة العربية بهزيمة ليست فقط عسكرية، بل نفسية، إذ تمثلت في الفشل في استعادة فلسطين. هذا الشعور بالهزيمة تراكم مع هزائم أخرى لاحقة في 1967 وغيرها، مما عزز الشعور بالعجز. 
 
ورغم هذه الهزائم، كان الفلسطينيون ومقاومتهم في الصف الأول لصد هذا الشعور. الانتفاضات الفلسطينية، سواء كانت الانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينيات أو الانتفاضة الثانية في مطلع الألفية الجديدة، كانت تعبيرًا عن إرادة كسر الانهزامية، حتى لو كانت القوة العسكرية للصهاينة تفوق الفلسطينيين. الانتفاضة ليست مجرد حركة احتجاجية؛ هي ثورة على الشعور بالهزيمة، وتأكيد على أن الشعوب المقهورة تملك القدرة على التمرد والرفض، بغض النظر عن توازنات القوة. 
 

التشكيك في الإنجازات كآلية دفاع نفسية 

التشكيك الدائم في الإنجازات قد يبدو في ظاهره ضعفًا، لكنه يمكن أن يكون آلية دفاع نفسية تعكس الوعي العميق بالتاريخ المحبط. الشعوب التي تعيش في ظلال الانهزامية تسعى بشكل غير واعٍ إلى حماية نفسها من خيبات الأمل المتكررة.
 
كلما تحقق إنجاز، حتى لو كان بسيطًا، يكون هناك خوف مستمر من أن يكون هذا الإنجاز مجرد فقاعة في وجه عاصفة قادمة من الهزائم. 
في الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، يتجلى هذا التشكيك بوضوح. رغم صمود المقاومة الفلسطينية في لحظات حرجة، والقدرة على إحداث بعض التغيير في الوضع الميداني أو السياسي، يظل هناك تساؤل في الوعي العربي: هل هذه الانتصارات مؤقتة؟ هل يمكن للصمود الفلسطيني أن يقلب موازين الصراع على المدى الطويل؟ هذا التشكيك لا ينبع فقط من قراءة الواقع الموضوعي، بل أيضًا من التاريخ الطويل الذي حمل معه إخفاقات عديدة. 
 

النضال ضد الاحتلال: محاولة لكسر القيد النفسي 

ما يجعل النضال الفلسطيني فريدًا في السياق العربي هو أنه يحمل في طياته معركة ذاتية لكسر القيد النفسي الذي فرضته الانهزامية التاريخية. المقاومة ليست فقط في مواجهة الدبابات والطائرات، بل هي أيضًا مقاومة لفكرة أن العدو لا يُقهر. الاحتلال الإسرائيلي، بتفوقه العسكري والدعم الدولي الذي يتلقاه، حاول ترسيخ فكرة الاستسلام في الوعي العربي، لكن المقاومة جاءت لتعيد تعريف الصراع وتؤكد أن الإرادة الشعبية قادرة على الوقوف في وجه هذه القوى، حتى في ظل اختلال التوازنات. 
 
النضال الفلسطيني، بما يحمله من تضحيات وصمود، لا يسعى فقط لتحرير الأرض، بل لتحرير الوعي العربي من حالة الاستكانة التي رافقت الهزائم المتكررة. إنه إعادة بناء للثقة في القدرة الذاتية، واستعادة للإيمان بأن الشعوب، رغم كل الظروف، يمكنها أن تصنع مستقبلًا مختلفًا إذا ما قاومت، ليس فقط عدوها الخارجي، بل أيضًا شكوكها الداخلية. 
 

التحرر من الانهزامية: الحاجة إلى تحول فكري وثقافي 

التحرر من الانهزامية التاريخية لا يمكن أن يتم فقط عبر الانتصارات العسكرية أو السياسية؛ بل هو عملية شاملة تتطلب تحولًا فكريًا وثقافيًا. يحتاج العالم العربي إلى إعادة بناء منظومة فكرية تؤمن بالإبداع والقدرة الذاتية، وتعزز الثقة في المستقبل. هذا التحول يجب أن يبدأ من خلال التعليم والتثقيف، وبناء أنظمة سياسية واقتصادية تتيح للفرد والمجتمع فرصًا للتطور بعيدًا عن الهيمنة والتبعية. 
 
وفي الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، يكون هذا التحول أكثر إلحاحًا. فالنضال ضد الاحتلال ليس مجرد معركة على الأرض، بل هو أيضًا معركة على الوعي. تحرر فلسطين لا يكمن فقط في استعادة الأرض، بل في استعادة الإرادة والقوة الداخلية التي تم قمعها عبر سنوات من القهر والانهزام. المقاومة في هذا السياق هي نموذج لتحدي التاريخ والتغلب على إرث الهزيمة. 
 

الخاتمة 

الانهزامية التاريخية عند العرب ليست مجرد حالة من الشعور بالعجز، بل هي نتاج تاريخ طويل من الانكسارات المتتالية التي تركت أثرًا عميقًا على النفسية الجماعية. النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي هو أحد أبرز الأمثلة على الصراع بين الانهزامية والإرادة المقاومة، حيث يشكل هذا النضال ليس فقط مواجهة مع العدو الخارجي، بل مع الشكوك الداخلية التي تغذيها الهزائم الماضية. التحرر الحقيقي يكمن في كسر هذه القيود النفسية والتغلب على الانهزامية، من خلال بناء إرادة جماعية تؤمن بالقدرة على التغيير والتحرر.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً