شهدت الجمهورية العربية اليمنية (الشطر الشمالي من الوطن) حروبًا طاحنة لمدة ثماني سنوات، بين الجمهوريين والملكيين، بداية من قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، برئاسة المشير عبدالله يحيى السلال، وبدعم وإسناد مصري للجمهوريين، ودعم وإسناد سعودي للملكيين. وبعد قرابة عام و18 يومًا، وبالتحديد في 14 أكتوبر1963م، اندلعت الثورة في الشطر الجنوبي من الوطن، ضد الاستعمار البريطاني، من على قمم جبال ردفان، واستمرت لأربعة أعوام، بقيادة الشيخ غالب بن راجح لبوزة الذي ارتقى شهيدًا، مع العلم أنه ورفاقه كانوا في مقدمة المناضلين في ثورة 26 سبتمبر 1962م المجيدة.
ويذكر أنه قد تشكلت جبهتان لمقاومة الاستعمار البريطاني، هما: الجبهة القومية، وجبهة التحرير، وكان مقرهما في تعز، وتتلقيان دعمًا مصريًا سخيًا بتوجيهات الزعيم جمال عبدالناصر، لكن نشبت الخلافات بين الجبهتين، واستأثرت الجبهة القومية بحكم الجنوب.
وعلى صعيد آخر، استمرت الحروب في الشمال بين الملكيين والجمهوريين، دون هوادة. وللأسف، لم يكن الجمهوريون على وئام، إذ تمت الإطاحة بالرئيس المشير عبدالله يحيى السلال، في 4 نوفمبر 1967م، خلال زيارته للعراق، تلاها حرب السبعين يومًا بتطويق الملكيين صنعاء في الفترة من 27 نوفمبر 1967م، حتى فك الحصار عنها في 8 فبراير 1968م، وبقيت الحرب مستمرة بين كر وفر بين فلول الملكيين والجمهوريين في جنوب صنعاء، حتى نهاية أغسطس 1968م، وحسمت بانتصار الجمهوريين في "قزان" المطل على نقيل يسلح، وفتح الطريق صنعاء -تعز.
من جهة أخرى، تزامن ذلك الحدث مع قيام الحرب بين رفاق السلاح (الجمهوريين) في 23 و24 أغسطس 1968م، لأسباب حزبية (حسب مراقبين)، وتم إبعاد 22 ضابطًا إلى الجزائر، من كلا طرفي النزاع، بقرار رئاسي من قبل القاضي عبدالرحمن الإرياني، رئيس المجلس الجمهوري.
وسادت اليمن والمنطقة حالة من عدم الاستقرار، وبخاصة بعد نكسة الخامس من حزيران 1967م، في الحرب الإسرائيلية -المصرية، وانسحاب القوات المصرية تدريجيًا من اليمن بعد ضغوط داخلية وخارجية، وقد جرت تفاهمات سابقة بين الزعيم جمال عبدالناصر حسين والملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، أثناء زيارة الزعيم جمال عبدالناصر إلى المملكة العربية السعودية في "جدة"، في 22 أغسطس 1965م، ولقاء الملك فيصل بن عبدالعزيز، بعد تتويجه ملكًا خلفًا للملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود، في 2 نوفمبر 1964م، ثم جاء لقاؤهما الثاني على هامش مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، خلال الفترة 29 أغسطس - 1 سبتمبر 1967م. وجاءت نتيجة اللقاءات التي جمعت الجانبين ودية ومشجعة لحلحلة الوضع في اليمن.
وبرعاية الملك فيصل بن عبدالعزيز، تم الصلح عام 1970م بين اليمنيين، جمهوريين وملكيين، تحت بيرق الجمهورية العربية اليمنية.
وفي سياق آخر، تمكن الإخوة في جنوب الوطن من نيل استقلالهم بعد معارك مع الاستعمار البريطاني حتى جلائه من عدن في 30 نوفمبر 1967م، وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية برئاسة أ. قحطان الشعبي. وفي عام 1969م استولى الجناح اليساري للجبهة القومية على الحكم، وتم تغيير اسم البلاد إلى "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، برئاسة سالم ربيع علي (سالمين)، في يونيو 1969م، وبقي في السلطة حتى استشهاده عام 1978م، وتسلم الرئيس عبدالفتاح إسماعيل الحكم (1978-1980م)، بعد تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني من قبل القادة: عبدالفتاح إسماعيل الجوفي، علي ناصر محمد، وعلي سالم البيض، ولم تكن الأحوال مستقرة حينذاك، مما أدى إلى تقديم الرئيس عبدالفتاح إسماعيل استقالته سلميًا، وغادر إلى موسكو.
الجدير بالذكر، نشبت نزاعات ومناوشات حدودية في 1972م و1979م بين الشمال والجنوب، أفضت إلى توقيع اتفاق القاهرة برعاية الجامعة العربية، عام 1972م، بين رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبدالرحمن الإرياني، والرئيس سالم ربيع علي، وانتهت حرب 1979م بتوقيع اتفاق في الكويت بين الرئيس علي عبدالله صالح والرئيس عبدالفتاح إسماعيل.
تجدر الإشارة إلى أن الرئاسة بعد مغادرة الرئيس عبدالفتاح إسماعيل 1980م إلى موسكو، انتقلت إلى الرئيس علي ناصر محمد، في وضع ساده عدم التفاهم بين جناحي الحزب الاشتراكي. وبطلب من قيادة جناحه في الحزب، عاد الرئيس السابق عبدالفتاح إسماعيل من موسكو إلى عدن، 1985م.
وفي 13 يناير 1986م، وأثناء اجتماع قادة الجناح الذي يتزعمه عبدالفتاح إسماعيل، في قصر "معاشيق -عدن"، باشر حراس الرئيس علي ناصر محمد -حسب مراقبين- بإطلاق الرصاص على قادة جناح فتاح، أودت بحياة بعض القادة البارزين. ونجا القائد عبدالفتاح إسماعيل، وتمكن ورفيقه علي سالم البيض من مغادرة القاعة بسلام. وتطورت الأحداث، وقتل الكثير من المواطنين وأفراد الحزب الاشتراكي المنقسم على نفسه. وفي ظروف غامضة ظهر البيض سالمًا، واختفى فتاح شهيدًا. وغادر الرئيس علي ناصر ورفاقه إلى صنعاء. تزامنت تلك الأوضاع المنهارة في الجنوب مع انهيار النظام الاشتراكي (حلف وارسو) بقيادة الاتحاد السوفييتي، بعد سبعين عامًا من الصراع أمام النظام الرأسمالي (حلف الأطلسي -النيتو) بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي سحب هذا الوضع نفسه على جميع أحزاب دول حلف وارسو.
وتسلم علي سالم البيض منصب الرئاسة في الجنوب بعد أحداث 13 يناير 1986م، ومن ثم نائب رئيس الجمهورية بعد رفع علم الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م، من قبل الرئيس المشير علي عبدالله صالح.
وفي السنوات الثلاث الأولى من قيام الوحدة، خابت آمال الشعب صانع الوحدة، حيث سادت المشاحنات والبغضاء بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام، وبخاصة بعد الانتخابات النيابة عام 1993م، وفوز التجمع اليمني للإصلاح المتحالف مع المؤتمر، في المرتبة الثانية، واعتبر الحزب الاشتراكي أنه خسر مكانته كصانع للوحدة، إلى جانب مآخذ أخرى على شريك الوحدة (المؤتمر)، مما أدى إلى تدخل الملك حسين بن طلال، في محاولة منه للتوفيق بين الرئيس علي عبدالله صالح، ونائب الرئيس علي سالم البيض، في عمان، في 18 يناير 1994م، إلا أن الأمور لم تثمر، إذ توجه البيض من الأردن إلى عدن العاصمة الاقتصادية، معلنًا الانفصال، وغادرها مع بعض رفاقه إلى سلطنة عمان. وقد نشبت الحرب في 4 مايو واستمرت حتى 7 يوليو 1994م، ودخول العاصمة الاقتصادية "عدن" التي تعرضت للسطو، حسب شهود عيان.
ومن الملاحظ أن دول الخليج أبدت استياءها من الموقف اليمني المنحاز للعراق في غزوه للكويت في 2 أغسطس 1990. كما أثار ترسيم الحدود بين اليمن وسلطنة عمان، في 1 أكتوبر 1992م، غضب السعودية، كونها لم تدع للمشاركة في الترسيم، فضلًا عن انزعاج دول خليجية من قيام الدولة اليمنية الموحدة القوية، ولتلك الأسباب مجتمعة تمت مضايقة العمال اليمنيين، والاستغناء عن مجموعة كبيرة منهم، مما كان له الأثر البالغ على الناحية الاقتصادية في اليمن.
حقيقة الأمر، لم تستقر الأوضاع في اليمن بعد حرب 1994م، حيث غزت إريتريا جزيرة حنيش الكبرى، في 15 ديسمبر 1995م، وتم التحكيم لصالح اليمن. ثم تبعتها المناوشات الحدودية بين السعودية واليمن، والقيام بتشكيل اللجنة العليا السعودية -اليمنية خلال اجتماع عقد في الرياض في 17 ديسمبر 1995م، لإزالة الاستحداثات العسكرية على جانبي الحدود، بناء على مذكرة التفاهم الموقعة في وقت سابق في مكة المكرمة، 27 نوفمبر 1995م، لتسوية الحدود. تلاها معاهدة جدة في 12 يونيو 2000م، بالتنازل عن نجران وعسير وجيزان، ولحقتها الحروب الست مع جماعة أنصار الله (2004-2010 م). وهكذا بقيت اليمن في دوامة عدم الأمن والأمان والاستقرار.
قمين بالذكر، أن الجانب اليمني بعد عودة الأمور إلى مجاريها بين الجمهوريين والملكيين في عام 1970م، وكذا إعادة العلاقات الثنائية السعودية -اليمنية، لم يحسن المسؤولون اليمنيون قيادة دفة الحكم إلى مرسى الأمان، ولم يكن أيضًا بعض مشايخ ومسؤولين ومتنفذين على مستوى حجم الوطن، واعتمدوا على الغير، وكانوا مأمورين لا آمرين، بما يؤكد أن سيادة اليمن مخترقة، وأن قرارها الخارجي مصادر مقابل تدفق الأموال بملايين الدولارات شهريًا وسنويًا إلى حساباتهم الخاصة، كان بالإمكان إيداعها في خزينة الدولة لمنفعة الشعب نظرًا للظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها اليمن.
في واقع الأمر، إن فساد هؤلاء المسؤولين لم يقتصر على الخارج فحسب، وإنما كان متفشيًا أيضًا على نطاق واسع في طول البلاد وعرضها، وذلك بالتصرف بثروات البلاد ومساعدات المانحين من قروض وهبات، والبسط على الأراضي، والتضييق على المستثمرين بتقاضي إتاوات، ومضايقة رجال الأعمال، والهيمنة على الوظيفة العامة.
ويستثنى من تلك المسائل المذكورة أعلاه "المرحلة الذهبية التي عاشتها اليمن بقيادة الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي ورفاقه، إبان الفترة من 13 يونيو 1974م حتى 11 أكتوبر 1977م. فقد شهد عهده القصير إنجازات كبيرة؛ منها التصحيح المالي والإداري في أجهزة الدولة، وإنشاء التعاونيات في الريف والمدن، وإنعاش الوضع الاقتصادي، واستقلال القرار السياسي، وبناء علاقات خارجية راقية على الصعيدين الإقليمي والدولي، والدعوة لقيام الوحدة اليمنية بالاتفاق مع أخيه الرئيس سالم ربيع علي، رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية... الخ. وكانت النتيجة الانتقام منه وشقيقه بذبحهما في رابعة النهار بالتواطؤ مع الخارج.
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
وبعد استشهاد الرئيس إبراهيم الحمدي وشقيقه عبدالله الحمدي، قائد قوات العمالقة، في منزل مضيفه نائب رئيس مجلس القيادة ورئيس الأركان العامة أحمد حسين الغشمي، في 11 أكتوبر 1977م، وبأقل من عام قتل هو الآخر بواسطة حقيبة مفخخة في مكتبه، في يونيو 1978م، وفقًا لأخبار تدوولت آنذاك، وتولى الرئاسة بعده الفاضل عبدالكريم عبدالله العرشي، رئيس مجلس الشعب التأسيسي، بحكم منصبه، من 24 يونيو 1978م، إلى 17 يوليو 1978م، تبوأ بعده منصب الرئاسة الرائد علي عبدالله صالح، بعد اجتماعه بمجلس الشورى في 17 يوليو 1978م، حتى الوحدة اليمنية 22 مايو 1990م، ثم تعيينه رئيسًا لدولة الوحدة، واستمر في المنصب حتى 25 فبراير 2012 م.
وفي 15 أكتوبر 1978م قامت الثورة الناصرية السلمية بقيادة رئيس المجلس الثوري عيسى محمد سيف، لكنه تم القبض على الثوار، والحكم عليهم بالإعدام، وبقيت أماكن قبورهم مجهولة.
وبعد استشهاد الرئيس إبراهيم الحمدي امتد نشاط الجبهة الوطنية أو حرب المناطق الوسطى، بمساندة الحزب الاشتراكي في الجنوب، بسبب تدهور الأوضاع المعيشية، وتفشي الظلم في تلك المناطق، وقد استمر نشاط الجبهة نحو ست سنوات.
وفي سياق آخر، قرأت مقالًا بعنوان "وكر القوارض"، لا أذكر اسم كاتب المقال، شمل أسماء شخصيات بارزة لمسؤولين يتلقون أموالًا من الخارج شهريًا وسنويًا، لكن كاتبه لم يكن منصفًا، إذ كشف بعض أسماء وحجب آخرين لمآرب.. وقرأنا في صحف عديدة في مطلع الثورة الشبابية عام 2011م، أسماء مسؤولين ومشايخ يتقاضون مساعدات ورواتب من الخارج، إلى جانب ما ينهبونه من أموال الشعب في الداخل.
حقًا، لم يكن يتأتى لأي إعلامي أو كائن من كان أن ينتقد مسؤولين ومشايخ ومتنفذين في السلطة -حسب مراقبين- خشية من أن يصنف بشخص غير وطني، ويزج به في غياهب السجن.
ومن الأعمال التي كان المسؤولون ينفشون فيها ريشهم، ويزينون بها أنفسهم تباهيًا أمام شعبهم الطيب، تمثلت بمنجز العمل الديمقراطي النيابي دون سائر المنطقة، تلميعًا لأنفسهم، وإضفاء الشرعية على كل ما يقومون به من أعمال، رغم أن وجود المجلس النيابي كما عايشناه على مر السنين، لم يكن إلا خيال ظل للفساد، وهو من ابتكر العبارة المشهورة "تصفير العداد"، أي تعديل مواد الدستور المتعلقة بالانتخابات الرئاسية، وتثبيت سلطة الحاكم، وبالتالي توريث الحكم، الأمر الذي قصم الديمقراطية الناشئة في مهدها، وكانت من أسباب انهيار النظام العميق عام 2011م. ويسري ذلك بالمثل على معظم البلدان العربية التي كانت تصنف -حسب مراقبين- بجمهوريات ملكية أو إمبراطوريات عائلية بسبب إطالة مدة الحكم، وحصره في الأسر والأقرباء.
كل ما في الأمر، أن معظم المجالس النيابية في الدول النامية ليست بأفضل حالًا، وبخاصة بتغطية أعمال الحاكم، وبطانته، وجلاوزته والمتنفذين، مما يفقد هذه المجالس روح العمل الديمقراطي النيابي من أساسه.
ولكيلا أطيل في تفاصيل جانبية، أود أن أعود إلى موضوعنا للتأكيد من جديد، أن الفساد في اليمن بمعناه الواسع قد استشرى في شرايين السلطة، وقلب البلاد عاليها سافلها، وظهر جليًا بكثرة النهب، والاغتيالات، والفتن، والحروب الداخلية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتعطيل المشاريع العامة، والاستثمارات، والاستئثار بالوظيفة العامة في المؤسسات، التي كانت أيضًا من أسباب قيام ثورة الشباب في 2011م، والتي بدأت بثورة الياسمين في تونس، ديسمبر 2010م.
وما زاد الطين بلة، تفريط النظام في الأرض وكأنها ضيعة خاصة.
وفي هذا السياق، أكد الخبير القانوني زيد الفرج، ما يلي: "تجسيدًا للمسؤولية التاريخية اليمنية على الحقائق، يجب على الدولة تحديد المواقف، وبمنتهى التجرد والدقة حول معاهدة جدة التي وقعت على أسس غير عميقة، ولا واضحة، ولا تستند إلى الحق والعدل سعيًا لبطلانها.
بكل أسف، إن كل ما جرى خلال الخمسين عامًا منذ قيام الثورة اليمنية شمالًا وجنوبًا ووحدة، حصدناه علقمًا ومانزال نحصده، إذ أصبح السواد الأعظم من الشعب اليمني فقيرًا في بلاده، تعيسًا في بلدان الجوار، ومشردًا في بلدان العالم بعد أن سدت أمامه سبل الحياة الكريمة. والسؤال الذي يطرح نفسه: اليمن إلى أين؟