قصة أيقظت غصتها صورة! كهذه التي صرفت النظر عنها طويلًا، فذكرتني بها صورة عثرت عليها بينما كنت أقلب ألبوماتي لنفض الغبار عنها ووقايتها من عث الصيف.
سلاح في السفارة..(!) صدق أو لا تصدق. هذا ما حصل حقًا. وهي بقدر ما تشير إلى ما كان لدى بعض المتطرفين منا، من استخفاف بالقانون الدولي واتفاقيات فيينا للعلاقات الدبلوماسية، فإنها من زاوية أخرى تظهر أن عبثية الكيد السياسي/ الأمني الذي شاب حياتنا السياسية في كثير من أطوارها لدرجة إنهاء حياة كثير من الوطنيين الأبرياء، قد بلغ في العهد الينايري مدى عالميًا إن جاز التعبير.
في نهاية مارس 1986 (وبعد عزلي من السفارة)، اتصل بي مسؤول أمن السفارة الأخ موسى العزاني، ليبلغني بأن المختص بأمن البعثات الدبلوماسية في الـKGB يريد مقابلتي في إدارتهم. سألته متعجبًا ما الأمر؟ فأجاب بعدم علمه بشيء إلا أن بلاغًا ما ضدي من السفارة.
وفي اليوم المحدد ذهبت بمعيته إلى المبنى العتيد. وهو أحد المباني التقليدية التي تميز وسط موسكو. ليس كبيرًا، لكنه متواضع الحجم بالنظر للمهابة والرعب اللذين يثيرهما اسم الكي جي بي عالميًا KGB (يتندر مواطنو موسكو سرًا بينهم بالقول عن أربعين طابقًا له تحت الأرض!) ما علينا.
دخلت وصاحبي، استقبلنا الضابط المختص بمكتبه الكلاسيك النظيف، ورحب بنا بكثير من اللياقة والإتيكيت. فسر لي مضمون البلاغ بأنني أدخلت عددًا من المسدسات وجدوا تسعة منها مختلفة المديات، وبأني كنت أخطط لتشكيل خلايا لاغتيال شخصيات رسمية وحزبية، وأنهم لا يستبعدون بأني أخفيت غيرها من الأسلحة. عند هذا الحد كان الرجل ينتظر رأيي في ما قيل ضدي، بينما كنت أحدق فيه بنظرة ملؤها الأسى والاشمئزاز من جماعة هذا البلاغ الكيدي الذي خرج من الحدود المحلية، وصار سياسة رسمية لنظام ما بعد كارثة يناير 86، بعد أن كان قد توقف بكسر شوكة ذلك الكيد منذ مطلع الثمانينيات.
كنت أستمع إليه مشمئزًا، وخاطري يعابث المتنبي (كفى بك داءً أن يكون الكيد أمميا!). ثم سويت جلستي وقلت:
بداية كنت أفضل أن يكون البلاغ عن طريق الخارجية بوصفها القناة الرسمية المعنية بالهيئات الدبلوماسية، أو على الأقل بحضور مندوب عنها. تحفز الرجل وقال يمكننا تأخير اللقاء حتى حضور مندوب من الخارجية، ووضع يده على الهاتف للاتصال، فعذرته وأومأت بأن كلا لا داعي، ويمكننا إكمال اللقاء، وأوضحت:
في 20 مايو 1985 استدعي السفير صالح بن حسينون لتقلد مهامه الوزارية، وقد عينت خلفًا له كرئيس البعثة. جرى الاستلام والتسليم بيننا، وقد عملنا قرابة السنتين معًا. لب الأمر يكمن هنا في خزنة السفير. تناول بن حسينون مفاتيحه وفتحها كان بها ثلاثة أدراج. الأول السفلي وبه عقد تأجير مبنى السفارة للبناية 14 شارع أليكسي تولستوي، وبه أختام السفارة الرسمية ولائحة الشيفرة السرية لجهاز الإرسال اللاسلكي مع الخارجية اليمنية.
يعلوه الدرج الثاني وبه احتياطي جوازات السفر. ثم فتح الأعلى، وهنا كانت الدهشة المرعبة. التفت نحوي بن حسينون قائلًا هذه هي الحالة التي اعترتني حين استلمت الخزنة، وعرفت أنها حدثت مع السفراء السابقين الدالي وبكير، وربما من سبق. الخلاصة لا يعرف أحد مصدر هذه الأسلحة، ولا كيف ومتى دخلت ووصلت السفارة.
هنا قال بن حسينون الجميع احتفظ بها وبسرها مكرهًا لا بطلًا، لما يترتب عليها من حرج كبير.
هكذا سلمتها بدوري لمن خلفني، وبذات التوصية بسريتها، وعليكم أن تقدروا ذلك الحرج. علمًا أن وثائق التسليم والاستلام بين كل السفراء المتعاقبين موجودة، وكان يمكنهم التحقق منها قبل افتعال هذه التهمة الكيدية بحقي.
وهكذا غادرت السفارة، واتصلت بالخارجية السوفيتية التي أبدت أسفها لعزلي، لاحقًا أبلغتني بتقدير قيادة الوزارة لفترة رئاستي لبعثة بلادي، وأبلغتني بقرارها منحي إقامة رسمية مع عائلتي متمتعًا بكافة إجراءات الحصانة، والبقاء قدر ما شئت أو حتى يعود الهدوء لبلادك، مع ضمان أمني الشخصي بعد أن رفضوا كل طلبات طردي أو حتى إخراجي من المنزل.
شكرني الضابط لصراحتي معه، مؤكدًا أن لديهم نفس التوجيهات لحمايتي.
عند باب الخروج سلمني بطاقة عناوين مع الهاتف للاتصال عند أي تعرض لخطر...
شكرته كثيرًا وودعته. هنا استوقفني قبل الخروج، وسأل عن تقديراتي لدخول الأسلحة. قلت له لا أستطيع الاجتهاد بأمر كهذا، لكن مما أتذكره أن السيد محمد علي هيثم، رئيس الوزراء السابق، عندما أعفي من منصبه عام 1972، أرسل للدراسة العليا هنا في موسكو. وبعد زمن من دراسته سمعنا أن السلطات السوفيتية استدعته وأخبرته عن محاولة رفاقية لقتله في موسكو، وأنها رتبت له سفرًا عاجلًا ليغادر إلى حيث يرغب، وغادر الرجل إلى مصر.
أكدت عليه أن ذلك مجرد تقدير مني حسب طلبه، وليست معلومة يؤخذ بها، فمادام كانت هناك محاولة قتل رفاقية لواحد من كبار قادة النضال الوطني، فلا بد أن تكون ثمة أسلحة رفاقية أيضًا!
قصص ولا في الأساطير
الخلاصة أن أي بلد يبني سياسته على أمن الدولة، يخسر السياسة والدولة معًا. وهكذا كانت اليمن الديمقراطية حلمًا جميلًا سكنته لعنة الدم منذ بدايته، ومن حيث لا يدري، فآثر الواقع أن يزيله!
عندما غادرنا المبنى، قلت لزميلي موسى العزاني أن يأخذني إلى شارع بياتنيتسا (ويعني سوق الجمعة)، وهو من شوارع موسكو الكلاسيكية الطراز، كان يسعدني السير فيه. ذهبت فورًا لاستوديو أتعامل معه، وقد صار صاحبه صديقًا لي. طلبت أن يلتقط لي صورة، قال هل أنت على مايرام؟ قلت هذا ما عليك أن تؤكده لي بالصورة. ضحك وأشار علي بالجلوس. كان الاستوديو مهيأً بأضوائه الخاصة، وقعدت على الكرسي كيفما اتفق، فأشار المصور بأن لا تحديد للجلوس كما هي عادته، اجلس كما تشاء. بعد ذلك طلب مني العودة بعد نصف ساعة.
خرجت للمشي بشارعي المفضل، فطرت (تشورني حليب بالكافيار الأحمر وقهوة بالشوكولاتة الساخنة)، ثم وزعت وقتي بين المكتبات ومحلات التحف والأنتيك، وبين المشي على رصيف الشارع الذي اعتاد المارة السير فيه بمسارين مثل نظام مرور السيارات الذاهب؛ يأخذ خط اليمين، والقادم خط الشمال، في دقة واحترام للنظام.
عدت للمصور أسأله كيف طلعت هل على ما يرام؟ قال يبدو ذلك، ولكن يا سيد عبدالله هل صادفك ما أغضبك؟
شكرته وأثنيت عليه كصديق لطيف وأنا أستلم المغلف، قلت لنفسي: الكرامة تعالج داءها بالتي كانت هي الداء.
تشاو دوسفيدانيا!