أبو الدهب عبده محمد!
هو الشارع نفسه ذَهَب الحياة
ما غيره شارع سبتمبر في تعز أيام بدايات الحلم الذي كانت تعز تضج به!
كغيره، كان محبًا لكل شيء:
إذاعة الجمهورية العربية اليمنية
إذاعة صوت العرب
صحف مصر من أخبارها حتى صباح الخير
وبجانب دكانته توضع أفيشات أفلام السينما المصرية، وقبلها "الجريدة العربية" التي تلهب أكف الناس تصفيقًا لظهور جمال عبدالناصر، وأفيش آخر لأحد أفلام السينما المصرية التي ظلت عالقة في أذهان جيل سبتمبر 62 العظيم "رصيف نمرة 5"، لتظل تعز منقسمة طوال الوقت بين محمود المليجي القادر على تحمل لكمات فريد شوقي، وقدرة شوقي على التغلب على كل العصابات! كانت الجريدة في سينما بلقيس، وقبلها ظهر يوسف وهبي على جدار إحدى شقق عمارة الغنامي المشهورة...
كان الشارع يضج بالحياة الجديدة، وكل كائن كان فيه تعامل على أنه ابن فجر ثورة سبتمبر العظيمة، وانظر فقط إلى أسماء الدكاكين ابتداء بمستودع "القنال" مرورًا بـ"مستودع الوحدة العربية" و"الميثاق"، وانتهاء بمستودع الفكر العربي، وهناك بجانب أفيش السينما "مستودع بورسعيد"، وتحت مدرسة ناصر "حلويات بورسعيد"!
ذات مساء جاء عسكري من المقام قبل الثورة، يبحث عن عبده محمد أبو الدهب، وشائف عبدالله مقبل "أنتم مطلوبين إلى صالة". حدثني عن ذلك قلالة، والد موفق سائق الإمام أحمد:
ساحت ركبهم: "ماذا يريد منا؟!"، صعدنا والعسكري برفقتنا، ولاحظنا أنه مهذب مؤدب استغربنا..
بعد المغرب ظللنا منتظرين في الديوان حتى أطلت عمامة الإمام، أحسسنا بالحموضة تجري في شاريين جسدينا:
هات يا دويدار كيس الذهب، وسأل عبده محمد:
أين الميزان حقك؟
في المحل
كلف العسكري وقلالة بالذهاب إلى المحل للإتيان بالميزان
قالا:
رمى الإمام إلى كل منا ربطة قات فهدأت نفوسنا
عاد قلالة بالميزان
قال الإمام:
هذا ذهب نساء المقام عبده محمد يزنه وشايف يقدر زكاته
ارتحنا، إذا كان الأمر يتعلق بالذهب ونساء "المقام" فلا بأس
وزنا الذهب حتى أكملنا وسلمناه القطفة
منح كل منا ريالين، وانصرفنا، وفي باب المقام تنفسنا الصعداء
ليعود بنا قلالة إلى الشارع...
بدأ التحضير العملي لثورة 26 سبتمبر 62، من المدرسة الأحمدية التي كان طلبتها من اليمن كله، من الحيمي إلى اليافعي إلى صاحب عتمة وريمة وتهامة، بمجرد أن أنهى الطلاب -ولم يؤرخ لهم بغير كتاب محمد المقري- إضرابهم، حتى لحقه أول بيان صباح الخميس: "هنا صنعاء إذاعة الجمهورية العربية اليمنية"، لحق النداء إعلان الأهداف الستة...
تدفق جبل صبر جمالًا إلى المدينة، يبحث عن ذهب عبده محمد، وعن أقمشة الثورة ومكارم الثورة، ليطوق "اللازم" الذهب أعناق الجميلات، وتحتل القلادات الصدور الجميلة... ليشكل الصاغة الطير الجمهوري ذهبًا، وتحتل "الشَّوالية" أعناق الأذرع التواقة للحياة..
ظهر الريال الجمهوري بديلًا عن "الفرانصي"، فقلده الصاغة ذهبًا، وصاغة صاغوه فضة... فكنت ترى الريال على صدور الأنيقات...
صار دكان الذهب لأبو الذهب عبده محمد مقصدًا للنساء والرجال أيضًا الذين زينوا أصابعهم بالخواتم أبو طير جمهوري...
بدأ الخير كالسيل ينداح على شارع 26 سبتمبر، مظاهرات تأييد للثورة، مسيرات تنديد بمحاولة اغتيال السلال وعودة طلبة اليمن من لبنان احتجاجًا على المحاولة، ومن الشارع الذي لم يتضايق أبدًا من المظاهرات والمسيرات، مر داؤود وزملاؤه صعودًا حتى السفارة الألمانية، وهناك صعد إلى السارية وأنزل العلم يحرق احتجاجًا على حكومة "إيرهارد" وصفقة الأسلحة لإسرائيل... وأمام عبده محمد أبو الذهب مر جمال عبدالناصر ليفيض الشارع بالبشر الذين انشقت عنهم الأرض مرحبين بالزعيم العظيم...
مسايرة لمشاريع الثورة أنشأ عبده محمد أول مزرعة أبقار خلف بيته الذي دكانه أسفله، وبجانبه العم سيف أبو الذهب، وقريبًا منهما "نبيل الوقاد"...
بمحل صغير قدم "الكيك مع الحليب" للزبائن، ومازال الأمر مستمرًا حتى اليوم حسب اعتقادي...
أبو الذهب عبده محمد من ذلك الجيل الذي دعم الثورة، وهتف لها، ودعَم المتعلمين، وظل بيته مفتوحًا لكل من أحس بالجوع، فلا ترد زوجته الفاضلة أحدًا... وكان قلمه أيضًا يمهر توقيعه لكل طالب يريد السفر، ويلتحق بالجيش أو بإحدى كلياته...
رحم الله عبده محمد أبو الذهب، ويسكن روحه السلام..
""""""""""""""""""""
المقام: مقر الإمام