صنعاء 19C امطار خفيفة

"هاينر فست": الحياة من جديد  في العيد الـ74

2024-09-02
"هاينر فست": الحياة من جديد    في العيد الـ74
المهرجان الأول في مدينة دارمشتات- الصورة من ارشيف الكاتبة

إهداء: إلى ضحايا "زولينجين"، على روحهم السلام، ولا نامت أعين الجبناء. 

 
** 
"اهتزت فيها الجدران من القنابل، كتبت بعض أبيات من الشعر اللاتيني على جدران غرفتي، لا أزال أذكرهم حتى الآن: إذا انهدم العالم من حولك حطامه سيبقيك شجاعًا" 
 
من مذكرات امرأة مجهولة "امرأة في برلين" 
 
** 
لم تسلم مدينة دارمشتات Darmstadt الواقعة في ولاية هيسن Hessen، جنوب ألمانيا، من الدمار الذي طالها مثلها مثل بقية المدن والولايات الألمانية التي عمها الخراب الساحق أثناء الحرب العالمية الثانية، وما لم تدمره الحرب النازية، دمرته غارات ما تسمى "ليلة النار"، أو "يوم الحريق"، "عاصفة النار" في 11-12 سبتمبر 1944، عندما ألقت القوات البريطانية القنابل المتفجرة والحارقة على المدينة، خصوصًا المدينة القديمة ذات المعمار القديم والمكتظة بالسكان. 
 
أحرقت المدينة بوحشية هي الأعنف والأقسى في تاريخها، دمرت تلك الغارة ما يقارب 80% من معمارها، وقتل حرقًا واختناقًا عُشر سكانها (كما تقول الإحصائيات)، إنها الذاكرة الأليمة لسكان هسن ودارمشتات خاصة. 
 

من بين الأنقاض: "الحياة متعة" 

كانت جادة تلك النخب من الأفراد والطليعة التجارية والعلماء والمثقفين، والمتطوعين، في عملها المثابر من أجل وضع حد لانسيابات وتداعي الذاكرة المفجعة للدمار والخراب والفقدان الموجع لآلاف القتلى والضحايا والمقابر الجماعية، والمشردين، والمعوقين، والبيوت المدمرة والمؤسسات، والحياة برمتها التي تحولت في غمضة عين إلى مقبرة واسعة.. تلكم النخب رفعت شعار "انتصار إرادة الحياة في Darmstadt"، ومن أن الحياة برغم كل شيء، هي: متعة، والحياة من جديد لا تأتي من الاستسلام للحزن وانعدام المستقبل، بل من العمل بما يبني ويبهج، الإعمار المادي والروحي معًا. بالتعليم والفن والموسيقى والرقص والتشكيل، إعمار المبنى والمعنى، فالروح المهزومة لن تخلق من جديد إلا بالعمل، ثم العمل الذي يقطع هوائل الحزن وجراحها الغائرة، نعم، متعة الحياة تبدأ بصناعة البهجة والترفيه، والبدء بمهرجان سنوي، تلتم فيه الأسرة الدارمشتاتية. 
المهرجان الأول في مدينة دارمشتات- الصورة من ارشيف الكاتبة

المهرجان الأول في مدينة دارمشتات- الصورة من ارشيف الكاتبة

 
ومن تحت الأنقاض ونزيف الأوجاع، كانت "شخصية هاينر"، وهو شخصية من الذاكرة الشعبية اشتهرت بالبهجة والشغف بالحياة، وكذلك يطلق على الكثير من رجال دارمشتات، وبه عنونت المدينة -الجديدة "هاينر فست"، في 3 فبراير 1950، أي بعد ست سنوات من ذلك اليوم المشؤوم "ليلة الحريق". 
 
وكان من ضمن أهداف المهرجان الذي انعقد حينذاك، التهيئة لاستقبال حوالي 900 من سكان دارمشتات، الذين تمت دعوتهم، أولئك الذين هربوا من جحيم الموت والخراب، ويكون حضورهم المهرجان لأول مرة مذ غادروا مدينتهم ومسقط رأسهم، وأطلق عليهم اسم "أسرة المهرجان"، لينطبع معنى المهرجان باسم العائلة -الأسرة، التجمع الحميمي الرابط الوجودي للإنسان. 
 
29 يونيو - 2 يوليو 1951 
 

"دارمشتات ستعيش" 

تحقق حلم الدارمشتاتيين بالمهرجان الأول لـ"هاينر فيست"، ولسان حالهم، يقول: نبدأـ الحياة الجديدة ونصنعها جميعنا، رد الاعتبار لمعنى الحياة في دار شتات، "دارمشتات ستحيا". 
 
دارمشتات عقب تدميرها

دارمشتات عقب تدميرها

في ذلك اليوم البهيج، ومن أمام القلعة المدمرة بما فيه جرسها المشهور، الذي دمر أيضًا، ولدت حياة الفرح والابتهاج، الحياة من بين الركام، الإعمار ومعه عزفت الأوركسترا بمشاركة الملحنين والموسيقيين، "أغنية هاينر.. دارمشتات ستعيش"، الافتتاح ببدء الولادة الجديد، كان كرنفالًا يعادل قيمة الحياة، تمثل بالملبس الملون، وذهب "الدارمشتاتيون" وهم في أبهى حلة من ملابس كلها تضج بالحياة الجديدة، وتم أيضًا إزالة الأنقاض، والوقوف دقيقة صمت حدادًا على الضحايا. تزامن ذلك الفرح بكلمة الافتتاح من قبل لودفيج أنجل، عمدة دارمشتات، وهو يستنهض الروح الدارمشتاتية: "لم نهلك أبدًا، نحب دارمشتات أكثر من أي وقت مضى". وفي كل عام يتجدد مهرجان هاينر -الحياة من جديد، بالترحيب الحميمي: "تعالوا جميعًا - Kommt alle" وبه يتم التأكيد على قيم التسامح والتعايش بين الشعوب والثقافات والأديان وكل مختلف. 
 

هاينر 2024 

في عيد هاينر الرابع والسبعين، كنتُ حاضرة في الكثير من فعالياته، كطفلة تتأمل بابتهاج هذه الحالة "الهينرية" بامتياز، البهجة ترتسم على وجوه جموع الناس، من كل الأعمار والأجناس والثقافات والألوان، في كل وجه لوحة مبشرة بحيوات جديدة، كحالتي أنا. 
 
لا تستطيع أن تقرأ وتعبر عن بهجة الأطفال بـ"هاينرهم" الجميل، يظلون في انتظاره كل صيف، يااالله كم الفرح والمرح والضحك والقفز واحتضان الألعاب، كل طفل يريد أن يلعب في دقيقة واحدة كل الألعاب، كم حجم السعادة لأهلهم وهم يطلقون الصور وأطفالهم يلوحون بأيديهم الصغيرة وعلامة الابتسام وبريق عيونهم التي لا يسعها الكون، هاينر فست للطفولة عنوان، أيضًا. 
 
في المهرجان تصطف المئات من الأكشاك عارضة لأنواع المأكولات والمشروبات الألمانية وغيرها من الثقافات، مسارح، مسرح الشارع والملاهي، الموسيقى والغناء (الحديث والكلاسيك)، هنا فرقة تغني بالألماني، الإنجليزي، اللاتيني والإسباني، الإفريقي، الكنسي، الموسيقى التركية والعربية، الجاز هناك موسيقى شبابية، جاز، روك، بوب، ألوان الرقص واستعراضات لا تمل، عرائس الدمى، وجوه الأطفال الملونة، أنواع السباقات، التسوق، الرياضة، الجولات بالتعريف بمعالم وتاريخ المدينة، تكريم الفاعلين، ومن أسهموا في صناعة الفرح لهاينر فست من الحاضرين والراحلين. 
احتفالات ليلية في دارمشتات- الصور من إرشيف الكاتبة

احتفالات ليلية في دارمشتات- الصور من إرشيف الكاتبة

 
لا تستطيع خلال اليوم أن تزور كل شيء، أكثر من 150 فعالية متنوعة يستعرضها مهرجان هاينر فست. 
 
وأنا أرى أولئك السبعينيين والتسعينيين، وهم يمشون ويتأملون، مبتسمين، كل مسام يحكي ألف حكاية وحكاية، ليس فقط ذاكرة الأمس، بل متعة اليوم والساعة واللحظة، مع هاينر فست 2024، أقرأ في حدقات عيونهم مقولة برناردو شو: "نحن لا نتوقف عن اللعب لأننا كبرنا، نحن نكبر لأننا توقفنا عن اللعب"! 
 
مع هاينر فست تتغير الخريطة اليومية للحياة والمواصلات، في دارمشتات، فالبدائل حاضرة، اتجاهات بديلة لوسائل المواصلات، إذ يتسع الفرح بما لا يضر بحركة وأشغال الناس. 

دمية هاينر فست

يختتم المهرجان بالألعاب النارية التي تضيء سماء دارمشتات في منتصف الليل، وسط بهجة الجميع، سعادة غامرة ترتسم على الوجوه والجدران والأشجار ووسائل المواصلات، حتى الإسفلت ينطق ويلوح بابتسامة الولادة الجديدة من متعة الحياة، مؤكدًا: "سنلتقي مع هاينر فست 2025". 
دمية هاينر فست

دمية هاينر فست

ما أحوجنا لـ"هاينر فست" 

وأنا أتأمل الصور بالأبيض والأسود للحقبة النازية وهوائل الحرب العالمية الثانية، التي دمرت البشر والشجر والحجر، أحدق أكثر في مدينتي الجديدة "دارمشتات"، كيف كان حجم الدمار، وكيف صارت اليوم: هاينر فست يتقاطع مع مساحة الذاكرة الجماعية القديمة قراءة وبحثًا بأفق العلوم الإنسانية المنفتحة على المعرفة، وهاينر فست الذاكرة الجديدة التي تصنع كل يوم حياة جديدة، أبجديته بجانب العلم، الثقافة، ثم الثقافة، ثم الثقافة.. ما أحوجنا لترميم ذاكرتنا الجمعية لأكثر من هاينر فست، جميعنا يحتاجه. 
 
** 
 
مدينة دارمشتات تعد رابع أكبر مدينة في ولاية هيسن، بعد فرانكفورت، ويطلق عليها مدينة العلوم والتكنولوجيا، قصر القلعة، مستعمرة الفن الحديث "Mathildenhöhe Darmstadt"، ويعد أحد أبرز معالم دارمشتات، يضم الكنيسة الروسية، والعديد من المراكز، وقد أدرجتها اليونسكو على لائحة التراث العالمي، أيضًا يوجد بها العديد من المكتبات، أهمها المكتبة الوطنية، والعديد من المتاحف، أشهرها متحف القلعة، والعديد من الحدائق الكبيرة... الخ.
 
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً