كان من المفترض أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي منصات للتعبير الحر والنقاش البنّاء، لكنها تحولت مع مرور الوقت إلى ساحات تجاذبات قاسية يتفشى فيها التنمر والسخرية، مع التركيز على الحصول على أكبر قدر من التفاعلات. بدلاً من تعزيز الوعي وفتح قنوات للحوار وتبادل الآراء، خصوصاً في بلد مثل اليمن الذي يحتاج بشدة إلى الحوار والتفاهم، أصبحت هذه المنصات بيئة خصبة لنشر التضليل والشائعات. وقد أدى ذلك إلى تصاعد النزعات السلبية والشخصنة. كما أسهم التركيز المفرط على الترندات والمواضيع الشائعة في تآكل الثقة بين الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي والمجتمع.
مؤخراً، تعرض الفنان هاني الشيباني، بسبب أغنيته "فَعْلَة"، لهجوم واسع وصل حد التنمر على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تحول هو وأغنيته إلى ترند. بدلاً من مناقشة الأغنية بشكل نقدي هادئ أو تركها للمختصين، اختار البعض استهداف الشيباني شخصياً باستخدام كلمات جارحة وتعليقات سلبية تهدف إلى الإساءة له. يعكس هذا الهجوم مدى سطحية الترندات وكيفية تحولها إلى أداة للإيذاء الشخصي بدلاً من أن تكون وسيلة لمناقشة القضايا الأساسية.
تواجه النقاشات في وسائل التواصل الاجتماعي مشكلة عدم مراعاة التخصص، حيث يلتقي المهتمون مع غير المختصين، مما يؤدي إلى نقد عمل كان ينبغي تركه للمختصين. لكن الأهم في هذا السياق هو البحث عن أسباب القسوة المبالغ فيها في النقد، ولماذا يشارك الجميع في النقد سواء كان سلبياً أم إيجابياً دون مراعاة للتخصص أو الحدود الدنيا من الموضوعيّة، مما يؤدي إلى تحويل أي مسألة نقاشية إلى ترند يحاول الجميع استغلاله للحصول على أكبر قدر من الإعجابات والتعليقات.
أعتقد أن تلك القسوة لها جذور نفسية، إذ تركت الحرب الأهلية آثارًا عميقة على النسيج الاجتماعي والنفسي للمجتمع. فقد أدى الصراع الطويل والمعقد إلى تفكك الروابط الاجتماعية بشكل كبير، وتفاقم الاستقطابات والانقسامات بين مختلف الفئات الاجتماعية، وحتى ضمن الأسرة الواحدة، حيث يمكن أن تنقسم الأسرة في ولائها إلى قسمين أو أكثر. إضافة إلى ذلك، نتج عن الحرب ما يُعرف بالصدمة النفسية الجماعية، التي تتراكم معها مشاعر الإحباط والغضب، والتي غالباً ما يتم تفريغها عبر النقد الحاد والمنفلت من أي معايير موضوعيةأو علمية. يُعد فقدان الثقة وانعدام الأمن النفسي من أخطر نتائج الحروب، خاصةً الحروب الأهلية التي تفتقر إلى هدف سامٍ أو نتيجة محددة وواضحة. ففقدان الثقة يؤدي إلى تفسير أي نقد أو نقاش من أي طرف على أنه تهديد مباشر، مما يزيد من قسوة الردود وطغيان جانبها السلّبي.
علاوةً على ذلك، يُعتبر اللجوء إلى النقد العنيف وسيلة لإثبات الذات في ظل الإحساس بالعجز عن تغيير الواقع الجمعي أو تحسين الحالة الفردية للشخص أو لأفراد أسرته. التعامل مع هذا الواقع يحتاج إلى برامج متكاملة تدعم الصحة النفسية، وتعزز ثقافة الحوار والتسامح، كخطوات أولية نحو إعادة بناء النسيج الاجتماعي الممزق.
أما فيما يخص تأثير الترندات على وعي المجتمع، فهي تسهم بشكل كبير في تغييب الوعي عبر نشر معلومات سطحية أو مشوهة بسرعة دون تحقق أو تمحيص. تنتشر هذه المعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجد الناس أنفسهم أمام موجة من المحتويات التي تجذب الانتباه دون أن تكون لها قيمة فعليّة. هذا النوع من الترندات يوجه الناس نحو الاهتمام بمواضيع تافهة وغير ذات أهمية، مما يسهم في تشتيت انتباههم عن القضايا الحقيقية التي تمس حياتهم اليومية.
تكرار هذه الترندات يخلق نوعاً من الضغط الاجتماعي للمشاركة فيها، حتى وإن لم تكن تعني الأفراد بشكل مباشر. يؤدي هذا إلى انقياد جماعي وراء هذه الموضات الرقمية، مما يقلل من حرية التفكير الفردي ويحد من القدرة على التعبير عن الآراء بموضوعية. في بعض الأحيان، تستغل جهات معينة هذه الترندات للترويج لأفكار أو منتجات أو أجندات سياسية، مما يؤدي إلى تضليل الجمهور ودفعه لدعم قضايا معينة دون وعي كامل بتبعاتها. في نهاية المطاف، ينبغي أن يدرك الناس أن الترندات ليست دائماً مقياساً حقيقياً لما هو مهم أو صحيح. إذ يمكن أن تكون هذه الترندات مؤقتة وتعكس فقط اهتمامات شخصية يغلب عليها الإثارة والسطحية. لذا، من الضروري أن يستند الفرد إلى قيمه ومبادئه الخاصة عند اتخاذ المواقف أو التعبير عن الرأي.