صنعاء 19C امطار خفيفة

قراءة في انهيار الأنظمة العربية العائلية وأبعاده

من الجدير بالذكر، إن ثورات الربيع العربي2011م، ثورات طليعية متجددة، ثورات صمدت، وستظل صامدة جيلًا بعد جيل، إلى أن تحقق أهدافها الوطنية. إنها ثورات سلمية، دفع الشباب من أجلها سيلًا من الدماء الزكية، في سبيل مشروع وطن عربي جديد خالٍ من الفساد والظلم والاستبداد، ونتيجة لهذا المقصد الأسمى، تداعت الجمهوريات الملكية تترى بعد أكثر من أربعة عقود، كأول هدف أسمى لهذه الثورات، وصار من اللزوم مواصلة المشوار تجاه تحقيق بقية الأهداف المتضمنة: تكريس العمل الديمقراطي، وضمان الحريات العامة، والتعددية السياسية، والكرامة الإنسانية، والمواطنة المتساوية، والعدالة الاجتماعية، وتحديد الفترة الرئاسية، والانتقال السلمي للسلطة، والتوزيع العادل للثروة... الخ.

 
وها هي الثورات تخطو قدمًا رغم أن الطريق لم ولن يكون مفروشًا بالورود، وإنما:
بنضال يصقل العزم به
وسهاد في العلا حلو الألمِ
حقيقة الأمر، إن كل ثورات الربيع العربي، وبأمانة القول والمقصد، كانت لشباب عازم على التغيير من الأنظمة العائلية العميقة التي كانت تحمل شعار "أنا وبعدي الطوفان"، في مقابل صيحات شباب الساحات، بطوننا خاوية، هرمنا هرمنا، ارحلوا ارحلوا.
 
في واقع الأمر، صارت البلدان العربية عبارة عن أسر متخمة، محاطة بمتنفذين وحاملي المباخر، يأمرون وينهون وينهبون كيفما يشاؤون، دون رادع.
 
ثورات وضعت أمامها الأشواك حتى قضى الله أمرًا كان مفعولًا، إذ لم يبقَ أحد من رؤساء وجلاوزة الأنظمة الاستبدادية، فمنهم من قضى نحبه، والبعض الآخر في مقاعد الانتظار.
 
شباب بقوا في الساحات بضعة أسابيع، يتلمسون حلًا لمشاكلهم، وكان الحل ممكنًا، في حال تم توظيفهم في المؤسسات المختلفة، وإصلاح أوضاعهم بعد أكثر من عقد من الزمن من تخرجهم من الجامعات، قضوها بدون عمل، لكنه بدلًا من الاستجابة لمطالبهم، أخذت الأنظمة العزة بالنفس الآثمة باستخدام كل ما يمكنها من أساليب البطش، والقمع الممنهج في ساحات الحرية، وما هي إلا بضعة أسابيع، وإذا باختراق أحزاب عقائدية من الإخوان المسلمين والاشتراكيين والسلفيين والناصريين وغيرهم، الأكثر عددًا وتنظيمًا وإمكانية، مؤكدين مطالبهم بسقوط الأنظمة.
 

في سياق آخر، وجب على القارئ معرفة المخرج الأجنبي الذي أخذ علمًا بنفسية الحكام العرب، وهم صنيعته، والذي أسهم في فسادهم وتهريبهم لأموال شعوبهم إلى المصارف الخارجية، وتشجيعهم على ممارسة القمع، حتى يتحين له (المخرج) الفرصة للإطاحة بهم في الوقت المناسب، بهدف تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، المخطط الاستعماري -الصهيوني الرامي إلى صياغة المنطقة، وصفقة القرن.

 
حقًا، إن المخرج الأميركي الصهيوني قد ركز على العامل النفسي لهؤلاء الحكام، وكان مدركًا أنهم لن يقبلوا بالتنازل لأي مطالب للشباب، وذلك بعد فترة حكم عبثية طويلة سادها الظلم، والقهر، والفساد.
 
وفي ساحات الثورات، جاء الضغط على الأنظمة العائلية العميقة، ألا يقطعوا وسائل الإعلام على الشباب، وكانت إحدى الركائز المهمة للتواصل بين الشباب، فضلًا عن التحذير الأميركي للأنظمة من محاولة قمع المظاهرات، وحثها على تلبية مطالبهم، وإعطائهم حقهم في حرية التعبير.
 
 وفي هذا الخصوص، يستحضرني الزيارات التي قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية السيدة هيلاري كلينتون، في إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، إلى بلدان المنطقة، 2010م، وتنبيه الأنظمة من أن هناك انتفاضات قد تحدث في المنطقة.
وفي وقت سابق، أعلنت كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الأميركي في إدارة الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش، 2005م، لصحيفة "واشنطن بوست"، أن الولايات المتحدة الأميركية ستلجأ إلى نشر الفوضى الخلاقة في بلدان الشرق الأوسط، في سبيل إشاعة الديمقراطية وإعادة بنائها بهوية جديدة.
 
وفي هذا الصدد، كان المستشرق اليهودي الصهيوني برنارد لويس، أول من دعا للفوضى الخلاقة في العالم العربي، إذ اعتبر أن كل العالم العربي تحكمه أنظمة استبدادية طاغية وفاسدة تسرق مقدرات الشعوب، ويجب تحقيق العدالة الاجتماعية ونشر الديمقراطية ومواجهة الإرهاب الإسلامي الراديكالي. ولذلك، فإن الحل السليم هو إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية، واحتلاها واستعمارها لحماية المصالح الأميركية، وبما يشبه اتفاقية سايكس -بيكو جديدة.
تلك المعطيات أسهمت إلى حد بعيد بتعزيز العمل الثوري في مختلف ساحات التظاهر وإسقاط رؤوس الأنظمة العائلية التي عرشت على الحكم زمنًا.
 

حقيقة الأمر، إنه لم يتبقَّ للأحزاب التابعة لتلك الأنظمة العميقة بعد ثلاثة عشر عامًا من الإطاحة بها، سوى القيام من وكرها، والحنين بالعودة إلى الحكم من خلال استخدام إمكانياتها وآلاتها الإعلامية لشيطنة ثورة الشباب تحت مسمى: إخوان مسلمين ودواعش وقاعدة، والخلط المتعمد في ما بين الشباب الثائر والأحزاب العقائدية التي اخترقت ساحات التغيير، وجاء هذا التشويه غير موفق، بل نكاية بالثورات وتضحيات الشباب خلال الأسابيع الأولى في الساحات الحمراء.

 
ومن المؤكد أن الثورات قد بدأت ولن توأد، شاء من شاء وأبى من أبى، وسيظل الحراك الثوري متجددًا حتى تنجز الأهداف الشبابية النبيلة.
 
في واقع الأمر، إن ثورات الربيع العربي في المنطقة لا تكاد تختلف عن بقية ثورات العالم التي مرت بصراعات، وإرهاصات، حتى تخطت الحواجز، لتصل بعد عقود وأجيال إلى الهدف المنشود.
 
ومن الجدير أن يشار إلى أن النظام العميق في اليمن كان الأوفر حظًا من بين البلدان العربية الأخرى، وذلك بتدخل مجلس التعاون الخليجي الذي صاغ خارطة للحل بإعادة النظام العميق السابق بشقيه: المؤتمر الشعبي العام، والتجمع اليمني للإصلاح، لمرحلة انتقالية (2012-2014م)، "وكأنك يا بو زيد ما غزيت"، أي لم يكن لشباب الثورة أصحاب الحق، قدر من نصيب، ولربما كانت دول مجلس التعاون الخليجي تخشى من انتقال الثورة الشبابية إليها، أو أن يأتي نظام آخر في اليمن غير منسجم معها، كما تم الأخذ بعين الاعتبار أن عدم استقرار اليمن قد يشكل خطرًا عليها وعلى بقية بلدان المنطقة من ناحية استراتيجية.
 
ومن الملاحظ، أنه لم تكن تلك المرحلة (2012-2014م) في اليمن، موفقة، إذ سادتها المناكفات السياسية، والفوضى العارمة بين شريكي السلطة، فانهار النظام للمرة الثانية.
ومنذ عام 2012 إلى نهاية 2013م، انخرط شباب الثورة بالمشاركة في "مؤتمر الحوار الوطني"، مع جميع المكونات السياسية، وأكاديميين، ومثقفين، بمن فيهم المرأة، أفضى إلى "مخرجات" هادفة لبناء الدولة الاتحادية الجديدة، تم الاتفاق عليها من قبل الجميع، وما تبقى سوى التوقيع على مسودة الدستور، لكن الأمور لم تناسب تطلعات البعض، فنفر منها رغم أن المخرجات كانت الضامن الحقيقي لخروج اليمن من بؤسها ومحنتها صوب غد أفضل.
 

يقينًا، إن ما تبثه بعض وسائل الإعلام المغرضة، وبخاصة إعلام أحزاب الأنظمة العربية العائلية، من الحنين إلى العودة للحكم، بعد مضي ثلاثة عشر عامًا، ربما لم تكن تدرك المتغيرات ومجريات الأحداث في المنطقة، وعليها أن تعي أن ما فات ماضٍ لن يعود.

 
وكان الأولى -حسب مراقبين- أن تعيد الأنظمة أموال الشعوب إلى خزائن بلدانها، وتقديم اعتذارها، وأن تعلم أن ما يحصل في المنطقة العربية والإسلامية حاليًا من حروب ومآسٍ ومشاريع خارجية، إنما هو نتيجة لما أحدثته تلك الأنظمة العائلية من معاناة لشعوبها طيلة فترة حكمها، والتأكيد بأنه لا مناص من أن تستكمل الثورات الشبابية أهدافها كافه، مهما كلفها الثمن من تضحيات نحو مستقبل زاهر للأمة.
 
ختامًا، يكفي التقليل من ثورات الشباب المتجددة، ويكفي الاستخفاف بعقول الناس الطيبين.
جوهر القول، إن قلب الأحمق في فمه، ولسان العاقل في قلبه، وتأكدوا أن الذين ولدوا في الأعاصير، لا يخشون العواصف. والله الموفق.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً