صنعاء 19C امطار خفيفة

انطباعات موجزة عن السعودية ومصر والتواجد اليمني فيهما! (4-4)

إضافة إلى ما سبق بما يخص زياراتي بالقاهرة.. زرتُ المثقف الأديب المفكر المناضل والصحفي الذي أحسده حسد غِبْطة على حفظه لديوان "المُتنبي" وأشعار من دواوين أُخرى، والذي ظل ولايزال مرتبطًا بعلاقات سياسية وثقافية وفكرية وإعلامية مع عرب وعجم أحياءً وأمواتًا، وعلى رأسهم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، والكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل (رحمهما الله).

أعني بذلك دولة الأُستاذ القدير محمد سالم باسندوة، رعاه الله. الرجل الذي دمعت عيناه بمجلس النواب في شهر يناير من عام 2012م، بعد أن تم تعيينه رئيسًا للوزراء، ليذهب إلى مجلس النواب يقدم بيان حكومته للمجلس كالمعتاد.. وبعد الانتهاء من قراءة البيان ومناقشته من قبل المجلس لبضعة أيام، ذهب مرة ثانية لهدف إقرار بيان حكومته من أعضاء المجلس، لكنه لاحظ تلكؤ بعض الأعضاء وكثرة ملاحظاتهم على بيان حكومته، ليس لهدف الحقيقة والحرص بقدر ما هو نوع من عدم الرضا، بخاصة وأنه لأول مرة يأتي رئيس وزراء إلى المجلس من خارج "أغلبية المجلس"، ومن غير المُعتَاد! فلم يجد موضوع الحديث هنا عدا الدموع، ليس حرصًا على المنصب بقدر ما هو تعبيرٌ مُؤلم عما وصل إليه وضع وطنه من مآسٍ ومحن وتأخر كبير في شتى مجالات الحياة، والذي تعود بعض أسبابه إلى بعض أمثال أُولئك الأعضاء وَمن يُمثلون! وإن لم يقل ذلك تحديدًا، مكتفيًا بما عبرت عنه دموعه عن مآل وطنه قياسًا لأوضاع أوطان قريبة منه!
 

والغريب أن بعض اليمنيين، بخاصة بعض من شاهدوا باسندوة وهو يبكي داخل مجلس النواب، يومها! ضحكوا عليه بسبب رؤيتهم تلك الدموع التي لا يخجل منها الرجال! ودون معرفة أهم أسباب ودوافع ذلك حينها!

 
وبعض ممن ضحكوا على بكائه بالأمس، باتوا اليوم يبكون على فقدان وطنهم وما آل إليه الوضع! ليعرفوا ربما بعضًا من أسباب ودوافع تلك الدموع، وليندموا على ضحك الأمس، و"لات ساعة الندم"!
أقول: زرنا الأُستاذ باسندوة في مقر سكنه، ليرحب بنا ويفتح ذراعيه لاستقبالنا، وفي تواضع جم وبساطة استثنائية ونادرة لأمثاله! فوجدناه بكامل صحته وقواه كالمعتاد، وظللنا معه أكثر من ساعة، كلها ذكريات؛ بعضها جميلة، وأُخرى محزنة تخص وطنًا وشعبًا! بما في ذلك بعض ذكرياته أثناء مهامه الوظيفية الرسمية، بخاصة أيام كان رئيسًا للوزراء.. إضافة إلى مشاهدتنا لمعظم الصور التي يزدان بها مجلس شقته المشرفة على النيل، والتي تحكي جانبًا من حياته العملية وأدواره الوطنية، وعلاقاته الواسعة مع مختلف الشخصيات والزعامات السياسية والفكرية والإعلامية وغيرها، اليمنية والعربية والأجنبية.. ورغم بعض المآسي والمحن التي يمر بها الوطن، والذي وَجدناه يتعايش معها متابعًا لها بكل ألم، إلا أنه أكد لنا تفاؤله بمستقبل أفضل لليمن ولشعبه، وفي ظل دولة اتحادية يتساوى في ظلها كل اليمنيين.. وهكذا قضينا معه أكثر من ساعة دون الشعور بها، لنعطي الفُرصة لزواره الكُثر، وليودعنا وكلانا يتطلع إلى لقاء بل لقاءات أُخرى معه.
 

كذلك، زرنا أول رئيس وزراء لدولة الوحدة، رجل الدولة بحق، وبشهادة محبيه وَخُصُومة معًا، أعني المهندس حيدر أبو بكر العَطاس، حيث كان يوجد في القاهرة أثناء وجودي فيها، فوجدته كما عهدته دومًا؛ سياسيًا مَرِنًا ورجلًا حصيفًا، يُجَسد بكل ما يمثل من قيم وأخلاق وتعامل استثنائي مع محبيه، ومنهم من عملوا معه عن قرب أثناء أدائه لمهامه كرئيس للوزراء، وأنا أحدهم، إضافة إلى ما يعرفه البعض عنه من حِرص وَصَرَامة وَبُعد نظر، ليجسد بذلك صفة رجل الدولة بحق.. وتلك بعض من صفاته التي عرفها الكثيرون، بالذات من عملوا معه كأمثالي أثناء فترة عمله.

 
وظللنا نتناقش في مختلف الجوانب العامة، خصوصًا التي تهم اليمن، ودون أن ينسى الحديث عن بعض ذكرياته الجميلة في "صنعاء"، وعمن فيها، بمن فيهم من كانوا يُعَدون خصومًا له، بخاصة أيام التوتر الذي ساد بين "العليين"، وما أدى إليه ذلك من تطورات وأحداث وصلت إلى حرب مدمرة بين أبناء وطن واحد! ليقتصر حديثه عن بعض خصومه في الجوانب الإيجابية فحسب، وتلك ميزة من مزاياه. كما تحدث عن أوضاع اليمن اليوم، متفائلًا بنجاح فخامة الرئيس الدكتور رشاد محمد العليمي، في مهامه الكبيرة، رغم كل ما ومن حوله! ثم -وهو الأهم- تفاؤُله بمستقبل واعد لليمن "الاتحادي"، وهو ما أسعدنا سماع ذلك منه؛ كون ذلك يتوافق مع تطلعات كاتب هذه "الدردشة"، بما يخص قيام يمن اتحادي بحسب مخرجات الحوار الوطني وبأقاليمه الستة!
ورغم التقدم بالسن، ومروره على خُطوب وَمِحَن، إلا أن "أبا معتز" لايزال محتفظًا بصحته وحيوته ونباهته المعهودة عنه، رعاه الله.
 
ثم، رغم زيارتي لمعظم المعالم والمتاحف التاريخية والحضارية والآثار التي تمتاز بها القاهرة، والتي لا يمل أمثالي من زيارتها مِرارًا، إلا أنني في رحلتي الأخيرة زرتُ، ولأول مرة، متحف أمير الشعراء أحمد شوقي -رحمه الله- والذي كان منزله الخاص، وقابلتنا -الزميل حمزة وأنا- الدكتورة آية طه محمد، مديرة المتحف، بترحيب وبشاشة كعادتها مع كل زائري المتحف الكُثر، ولتتفضل تدخلنا كل غرف المنزل (المتحف)، ومناسبة أو وظيفة كل غرفة، بجانب شرح بعض الصور الخاصة والعامة المعلقة في الغُرف وفي أروقة المنزل، مع تاريخ ومناسبة كل صورة... الخ.
 
هكذا ظللنا نتخيل وجودنا مع أمير الشعراء، بمنزله، أو بالأحرى من خلال "متحفه"، وبتلك الفترة الزمنية الجميلة وإبداعاتها الشعرية والأدبية والسياسية والفكرية، والتي ربما يصعب تكرارها اليوم، حيث السوشيال ميديا ومختلف وسائل التواصل الاجتماعي، والذي بقدر ما أعطى بقدر ما قضى على أهم صفات الحياة العامة الجميلة! أو هكذا يفهم أمثالي!
وعند خروجنا من المتحف، ظللتُ أتساءل هل وُجد الاهتمام بـ"رامتان" مقر منزل عميد الأدب العربي طه حسين، وبنفس الاهتمام بشوقي؟! إضافة إلى كبار مثقفي وشعراء وأُدباء وصحفيي تلك الفترة وما بعدها، أمثال حافظ إبراهيم ومحمد حسين هيكل -الأديب- ومحمد حسنين هيكل -الكاتب الصحفي- ونجيب محفوظ وأحمد رامي ومصطفى صادق الرافعي ومحمد الغزالي وعباس محمود العقاد... وغير هؤلاء وهم كثر، بمن فيهم من نجد لهم بعض التماثيل في بعض حدائق وميادين القاهرة، لكنهم بحاجة إلى متاحف تحكي الكثير عن نبوغهم وأدوارهم الوطنية. ودون أن ننفي اهتمام مصر ببعض رجالها ممن نبغوا في بعض المهام المختلفة، وحرصها على حفظ تراثهم، وإظهار أدوارهم التي قاموا بها في مختلف الأزمنة من أجل وطنهم وأُمتهم، فلكم هم سُعداء نوابغ مصر بوجه عام، حيث وجدوا حكومات تراعي لهم ذلك، وتحرص على حفظ أرشفة الأدوار والخطابات والأغاني الخالدة وغيرها، وعبر الصوت والصورة معًا!
 
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فليت شعري كيف يا ترى باتت أرشفة الأشرطة والصور بجانب الخطابات والأغاني لبعض أهم زعماء وثوار وفناني اليمن، ولا أقول متاحف وتماثيل، بخاصة من بعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م الخالدة، وما حدث لذلك من بعد الانقلاب الحوثي واحتلاله للعاصمة صنعاء يوم 21 سبتمبر عام 2014م المشؤوم..؟!
لقد أكد لي أحد الزملاء ممن كانوا من كبار موظفي دائرة التوجيه المعنوي، أن الحوثيين أحرقوا وصادروا معظم -إن لم يكن كل- ما ظل يجمعه ويؤرشفه الفقيد الراحل علي حسن الشاطر -رحمه الله- في دائرة التوجيه المعنوي، إضافة إلى حذف كل المقالات التي كانت تنتقد بعضًا من تصرفات آبائهم وأجدادهم الأئمة، ولو كنماذج تاريخية، وتصرفاتهم أيضًا، خصوصًا من بداية الحرب الأُولى معهم عام 2004م.. وهي المقالات والدراسات واللقاءات التي كانت تنشر في صحيفة "26 سبتمبر" وموقع "سبتمبر نت"، ومن ذلك بعض من مقالات كاتب هذه "الدردشة". والخشية أن ما حدث في دائرة "التوجيه المعنوي" قد يكون حدث أيضًا في أرشفة "الإذاعة" و"التلفزيون"، وببعض الوزارات والهيئات والمؤسسات الرسمية، والهيئة العامة للآثار والمتاحف وغيرها! نسأل الله السلامة للوطن ولتاريخه.
 

كذلك زرنا بعض الزملاء والأصدقاء، ومنهم العزيز والأهيل الأصيل وذاكرتي عند النسيان عن بعض ما له علاقة ببعض الجوانب الشخصية التاريخية، وبالذات السياسية والثقافية والفكرية، أعني حفيد الصانع الأول للأحرار لطفي فؤاد أحمد محمد نعمان! إضافة إلى زيارة الزميل القدير سامي غالب إلى مقر سكنه، حيث لايزال يتلقى العلاج من الجلطة التي أُصيب بها قبل فترة، حيث عشنا --حمزة وأنا- معه ذكريات جميلة، بخاصة مع بداية انطلاق صحيفة "النداء" التي كنتُ شخصيًا أعدها من الصحف القليلة التي ظللت أحرص على قراءتها من الغلاف إلى الغلاف، لحسن إخراجها المميز ونوعية بعض كتابها... الخ، ولم تقف "الإعاقة" التي مُنيَ بها الزميل سامي قبل قرابة سنتين دون إعادة إصدار "النداء" لقرائها الكُثر!

وفي طبيعة الحال، كنا نلتقي بعض اليمنيين بمختلف توجهاتهم العامة في بعض "المقاهي" والمتنزهات وغيرها، لنتعارف مع بعضنا البعض.. ومعظمنا يشكو من وضع الوطن وما آل إليه اليوم، ولبعضنا البعض، مع بعض التباينات في بعض الأسباب لذلك، ولسان الحال يُردد مع أمير الشعراء "شوقي":
"يا نائح الطلح أشباه عوادينا
نأسى لواديك أم نشجي لوادينا"
كنا -حمزة وأنا- نحرص على حضور بعض الفعاليات الثقافية والإعلامية، بما فيها إشهار بعض المؤلفات الجديدة ذات الصلة باليمن، والتي ينظمها المركز الثقافي اليمني، وإن كانت قليلة.. وكان الهدف الأول لنا هو اللقاء ببعض الزملاء والأصدقاء.
 
ومن ذلك حضور حفل التوقيع لكتاب بعنوان "ذمار اليمنية -مسيرة تاريخية حضارية" للدكتور صلاح أحمد البهيني، أُستاذ الآثار بجامعة عين شمس، والذي كان يدرس في جامعة ذمار، ليتحدث عن كتابه وعن بعض ذكرياته في ذمار.. وقابلنا بنفس ذلك اللقاء بعضًا ممن كانوا في قمة سلطة الأمس! ومنهم وزير الثقافة الأسبق محمد أبو بكر المفلحي وغيره.. إضافة إلى بعض الزملاء والأصدقاء.. وكانت المفاجأة حقًا حضور زميل الفصل والدراسة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، قبل أكثر من أربعين عامًا، الزميل الدكتور عبدالله علي بانخر، الذي أحسب أنه من الأشقاء السعوديين القلائل، الحريصين على حضور بعض ما يهم الشأن اليمني، ليس فقط لأنه من أصل "يمني -حضرمي"، وإنما لكونه رجلًا مثقفًا وأكاديميًا معروفًا في وطنه السعودية وخارجها.
 
كذلك، حضرنا وبنفس المركز تدشين كتاب "ذكرياتي في عدن، مدينة صناعة الوعي والتسامح"، للمناضل الحق والصديق علي عبدالله الضالعي، فلقد قرأت الكتاب الذي أهداه لي المؤلف بكل تمعن، وما ساعد على الرغبة بقراءته هو أسلوبه المبسط وسرد تاريخي يُعبر بحق عن ذاكرة قوية وتوجهات وطنية راسخة، وربما لم أقرأ مذكرات شبه حديثة بمثل هذا الوضوح والصراحة والمصداقية مع الذات، بخاصة ذكر الأسماء ذات الصلة بالأحداث، بالذات ما يخص ما كان يُسمى "جهاز الأمن الوطني" قبل الوحدة!
 
وكم يتمنى أمثالي قيام بعض من مروا بنفس التجارب وذاقوا مرارة السجون، كتابة مذكراتهم، إذ ليس شرطًا أن يكون من يرغب بكتابة مذكراته قد شغل مناصب وزارية أو قيادية، فحبذا لو كل واحد ذاق مرارة السجون أو حتى كان شاهدًا أو عاش بنفس تلك الفترة، عمل على كتابة مذكراته من أجل اليمن، ومن أجل الأجيال القادمة. وكم أُعجبتُ بعنوان الكتاب بوصفه لعدن بما كانت عليه فعلًا، حيث صناعة الوعي والتسامح بحق!
 
ليت شعري، كيف باتت عدن اليوم؟! ولماذا يرغب بعض المجاهرين بحبها نظريًا! طمس وعيها وتسامحها كما كانت عليه قبلًا؟!
أثناء تدشين كتاب "الضالعي"، قابلنا -حمزة وأنا- بعض الزملاء والأصدقاء، بمن فيهم من كانوا حتى الماضي القريب من كبار قادة "الوحدوي الناصري"، وإنما أقول هنا كانوا، لعدم معرفتي بمآلهم اليوم! بعد أن باتت يمن اليوم غير يمن الأمس، وتحالفات اليوم غير تحالفات الأمس! وإن كنتُ أستثني أمين عام الوحدوي الناصري حاليًا، المحامي عبدالله نعمان القدسي، الذي أحسب أنه لايزال على نفس الحب والانتماء لحزبه ولأدبياته، حسب معرفتي به، وظني فيه.
 
ثم.. أما بعد..
أحسب أنني قد أطنبت في الحديث عن انطباعاتي عن السعودية ومصر والتواجد اليمني فيهما! مع أنني حرصتُ على الإيجاز ما أمكن، لكن معظم قراء اليوم لم يعودوا يفضلون قراءة المقالات شبه المطولة! وقد يكون معهم بعض الحق، لكن حرصي لتسطير مثل هذه الانطباعات رغم أنها "موجزة"، إنما يرجع إلى الحرص على أن يكون جزءًا يسيرًا من سجل تاريخي قد يصبح شبه مهم ذات يوم! والله أعلم، رغم أنني أحسب أني لم آتِ بجديد بما سطرته هنا، لكنها شقاوة "القلم" لدى أمثالي أحيانًا! ولله الأمر من قبل ومن بعد..
تعز - 20 يوليو 2024م

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً