ميزت دائمًا بين غرب عدوٍّ وغرب صديق. وهو تمييز ضروري، بالمعايير الموضوعية وبالاعتبارات السياسية، التي تستدعيها طبيعة الصراع والتحدي الذي تواجهه أمتنا العربية، وتقتضيها ضرورة بناء التحالفات وكسب الأصدقاء، وتحاشي الخلط بين الأعداء والأصدقاء. لأن الخلط وعدم التمييز يقوي الأعداء، ويضعفنا نحن، ويبعد عنا قوى يمكن أن تؤازرنا في نضالنا، وتنتصر لقضايانا العادلة.
وهنا أعيد نشر فقرات منتزعة من مقال قديم، بعنوان "هناك غربٌ وغرب"، سبق نشره في صحيفة "الشارع"، بتاريخ 28 يونيو 2014م، ميزت فيه بين الغرب العدوِّ الذي لا مفر من مقاومته، وبين الغرب الصديق الذي يتوجب علينا أن نلتفت إليه، ونقيم التحالفات معه، تعزيزًا لنضالاتنا، ونصرةً لقضايانا العادلة:
"عندما نتحدث عن الغرب، ونشير إلى عدوانه الدائم على بلداننا، فإنما نقصد "الغرب الاستعماري"، المتمثل بالمصالح الاقتصادية الكبرى والحكومات التي تخدم تلك المصالح، وتسعى إلى بسط هيمنتها على بلدان العالم، لا سيما العالم الضعيف المنكسر الإرادة، المليء بالثروات، التي هي موضع اهتمام الغرب الاستعماري ومحور نشاطاته ومخططاته. أما الغرب الآخر، المتمثل بالشعوب ونخبه المثقفة، التي لم تفقد أحاسيسها الإنسانية، وغالبًا ما تشاركنا همومنا وتقدر معاناتنا، وتقف ضد سياسات حكوماتها الظالمة، أما هذا الغرب الآخر فقلما نلتفت إليه، أو نتحدث عنه.
وفي هذا السياق، أود أن أشرك القارئ معي في قراءة فقرة من رسالة وصلتني من صديق غربي، ليتبين الفرق بين غرب وغرب، ويدرك أن الاستغلال والاستبداد والسلوك الوحشي، الذي اتسمت به مسيرة الاستعمار الغربي، مكروه من قبل الغرب الآخر، كما هو مكروه من قبلنا. مع فارق واضح، وهو أننا نحن عانينا ونعاني من الاستعمار الغربي بصورة مباشرة، وواجهناه بالصدام أحيانًا وبالخنوع أحيانًا أخرى. في حين أن الغرب الآخر (الصديق) يعاني من الاستعمار أخلاقيًا، ويشعر بأزمة ضمير من جراء انتمائه معه إلى حضارة واحدة، ويواجهه بالفكر وبالمواقف الإنسانية المعلنة. إنه غرب يفهمنا ويتفاعل معنا. وعلينا نحن أن نفهمه ونتفاعل معه، كسبيل من سبل المقاومة لوحشية الغرب المستعمر وجشعه. يقول الصديق في رسالته:
[الأحوال عندنا طيبة، ولكننا، مع الأسف، لا نتحمل نصيبنا من المعاناة، التي يتحملها جيراننا. إننا نتصرف كما لو كان العالم كله يعيش في أمن وسلام. ولكن في الحقيقة أن الكوارث تجتاح العالم، وتحطم كل مقومات الحياة الطبيعية للبشر. إن صور التهجير والتشريد والاضطهاد والقتل والغدر تعذبني، ولا تغادر مخيلتي. هل يمكنكم في اليمن أن تعيشوا حياتكم اليومية، وتتحركوا بصورة طبيعية؟].
هكذا تنتهي هذه الفقرة القصيرة بسؤال مهم، على الأقل بالنسبة للصديق، الذي يعيش بعيدًا عن حياتنا ومعاناتنا. ولعل من ينصِّبون أنفسهم أمراءَ للحرب في اليمن وصناعًا للأزمات، لعلهم يستطيعون أن يساعدوا في إعطاء إجابة معقولة لصديقي هذا وأمثاله، الذين تشغل عقولهم أحوال العالم المضطرب، بما في ذلك أحوال اليمنيين.
إن الصورة الملتقطة من هذه الرسالة، تعبر عن موقف "الغرب الصديق"، وتتيح لنا فرصة المقارنة بين هذا الموقف، وبين موقف "الغرب العدو"، الذي عبر عنه التصريح الشهير، لوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة "مادلين أولبرايت". وهي مقارنة ستزيدنا معرفة بطبيعة الغرب الاستعماري وانحراف تفكيره ووحشية سلوكه. فقد تناقلت وسائل الإعلام تصريحًا للوزيرة، عندما كان العراق محاصرًا، ويموت أطفاله يوميًا، إما نتيجة للجوع وسوء التغذية، أو قتلًا بقذائف الطائرات الأمريكية، أو بفعل أمراض السرطانات المنتشرة، التي خلفها استخدام الغزاة للأسلحة المحرمة دوليًا. ولم يهز ذلك الواقع المؤلم مشاعر الأمومة، لدى الوزيرة، بل كان رأيها أن قتل نصف مليون عراقي هو ثمن معقول لإسقاط صدام حسين. وكان هذا هو رقم الضحايا من أطفال العراق في عهد الوزيرة، ومن الطبيعي أن يتضاعف بعد ذلك، لا سيما منذ غزو أمريكا وحلفائها للعراق، في عام 2003م.
إنه تصريح نفهم منه أمرين، على الأقل. أولهما: استعداد الإدارة الاستعمارية للتضحية بأطفال العراق، دون تمييز، بين شيعتهم وسنتهم ومسيحييهم وصابئتهم، عربهم وكردهم وأرمنهم. وثانيهما: أنه مادام الأطفال، الذين يُقتلون، ليسوا أطفالًا أمريكيين، فلا بأس من أن تزهق أرواح الملايين منهم، من أجل إسقاط صدام حسين، والمضي نحو مشروع تقسيم العراق، كمرحلة أولى في عملية رسم الخارطة الجديدة للشرق الأوسط الجديد، التي افتتن بها الساسة الاستعماريون، بعد أن توصلوا، عبر ما يقارب قرنًا من الزمن، إلى قناعة بأن اتفاقية سايكس بيكو لم تعد كافية لتفتيت الشعب العربي وتشتيت قدراته وتمزيق وطنه العربي.
ترى لو أن طفلًا أمريكيًا واحدًا قُتل، هل كانت الوزيرة الأمريكية ستستهتر بروحه، كما استهترت بأرواح نصف مليون من أطفال العراق؟". انتهت الفقرات المنتزعة من المقال المذكور.
هذه الفقرات من مقال قديم، نُشر قبل أكثر من عشر سنوات، استرجعتها الآن، ونحن نشاهد الغرب الإنساني الصديق يتحرك في ساحات الجامعات وفي الشوارع وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، يرفع علم فلسطين، ويناصر قضيتها العادلة، ويشد من أزر شعبها الصامد، ويطالب بحريته واستقلاله على أرضه، التي صادرها الغرب العدو "الاستعماري"، ومنحها لعصابات الإرهاب الصهيونية. هذا الغرب الإنساني الصديق يرفع صوته في وجه الغرب الاستعماري المتوحش، مدينًا ضلوعه في عمليات الإبادة الجماعية للشعب العربي الفلسطيني، متحملًا في سبيل موقفه الإنساني القمع والاضطهاد والاعتقال والتشهير والتشويه.
أقول هذا ولا أخفي شعوري بالخجل من عجزنا العربي، وخذلاننا لمقاومة عربية تمثل اليوم شرف الأمة وعنوان كبريائها وروح صمودها وضمان بقائها حية بين الأمم، وهي المقاومة الفلسطينية، التي حركت شوارع العالم، ولم تحرك شوارعنا العربية بالمستوى المطلوب، وأيقظت الضمير الإنساني، ولم توقظ ضمائر حكامنا، وفتحت الأعين على بشاعة الغرب الاستعماري ونفاقه وازدواج معاييره ووحشية الحركة الصهيونية وتغولها ولا إنسانيتها، وأعادت اكتشاف أصدقائنا في أوساط الشعوب الأوروبية والأمريكية، من علماء وأساتذة جامعات وطلاب ومثقفين وصحفيين وناشطين حقوقيين وسياسيين، محبين للعدل والسلام في العالم، الذين امتلأت بهم الشوارع، وهم يعلنون رفضهم لسياسات حكوماتهم تجاه القضية الفلسطينية، وإدانتهم للإبادة الجماعة التي يمارسها الصهاينة في فلسطين، متعاطفين مع الشعب العربي الفلسطيني ونضاله العادل المشروع، تعاطفًا بلغ حد الاحتجاج على سياسات حكوماتهم بإحراق أحدهم جسده، وهو الضابط الطيار الأمريكي الشاب، آرون بوشنل، الذي أعلن موقفه الإنساني بإحراق جسده حتى الموت، وهو يندد بالإبادة الجماعية لشعب فلسطين، وبسياسة حكومته الأمريكية، المشاركة في هذه الإبادة، صارخًا بأعلى صوته، وجسده يحترق: "عاشت فلسطين حرة". وقد عتمت وسائل الإعلام الغربية على تضحيته الجسيمة، واكتفت، ومعها الإعلام العربي، بإذاعة خبر عابر عنه، ثم ما لبثت أن تجاهلته وتعمدت نسيانه. ونسيناه نحن أيضًا.
ويتضح من خلال الفقرات التي انتزعتها من المقال القديم، أن الغرب الاستعماري هو نفسه، لم يتغير ولن يتغير، بكل وحشيته ودمويته وجشعه. وقد تجلت صفاته هذه في ممارساته التي شهدناها في العراق وفي فلسطين وفي أقطار أخرى من وطننا العربي الواحد. كما يتضح أننا نحن العرب أيضًا لم نتغير حتى الآن. فموقفنا السلبي من محنة العراق، هو موقفنا من محنة فلسطين وسوريا وليبيا والسودان واليمن، ومن قبل ذلك محنة الصومال ولبنان. والبقية ستأتي حتمًا، مادمنا نكتفي بالتفرج. ومن يكتفي بالتفرج على محنة إخوته دون أن يحرك ساكنًا، قد يصبح في المستقبل فرجة لإخوته في محنته. ولن تجدي عند ذلك حكمة الثور البائس المتأخرة، وهو يقترب من مصيره المحتوم: "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض". فالحكمة المتأخرة لا تفيد صاحبها، ولن تمنع الغرب الاستعماري والحركة الصهيونية العالمية من أكلنا جميعًا. ولن تنجو من هذا المصير حتى الحكومات العربية (الصديقة) للغرب الاستعماري. فالاستعمار لا أصدقاء له. وفي مصائر شاه إيران والسادات وزين العابدين ومبارك وغيرهم من أصدقاء الغرب الاستعماري، عبرة لمن يعتبر.