لم تشهد مدينة في العالم الدمار الواسع والإبادة الجماعية لسكانها مثل ما شهدته مدينة غزة من قبل الكيان الإسرائيلي المحتل، والتي لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومترًا مربعًا، وعدد سكانها بحدود 2.3 مليون نسمة. حقًا، إنه يشبه دمار زلزال بقوة 9 درجات بمقياس ريختر.
وعن سكان غزة الأباة، يستحضرني قول الشاعر:
طوبى لكم أمجادكم في أرضكمُ
من بعد ما أركعتم الطغيانا
لا لم تموتوا رغم كثرة قتلكمُ
فلقد غدوتم للورى عنوانا
ولقد بهرتم كل من في الكون إذ
أشعلتم الإحساس والوجدانا
وعلى الرغم من الوساطات والمفاوضات التي تقوم بها كل من مصر وقطر، منذ عشرة أشهر، لإنهاء الحرب وتبادل الرهائن والانسحاب من غزة المكلومة وتسهيل دخول المساعدات وحل الدولتين، إلا أن مساعيهما الحميدة تواجه بصلف وتعنت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يصر على استمرار القتال حتى تستسلم حركة حماس. ولم يقتصر الدمار والقتل الإسرائيلي على غزة، وإنما شمل الضفة الغربية والقدس الشرقية، كما أنه لن يسمح -حسب تصريحه- بحل الدولتين بقدر ما يريد تصفية القضية الفلسطينية وإقامة الدولة العبرية من النيل إلى الفرات، وإنه لن يقبل أيضًا -على حد قوله- بدولة حماسستان ولا بدولة فتحستان.
كما امتد العدوان الإسرائيلي على لبنان واغتيال القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر المعروف بالحاج محسن أو محسن شكر، في ضاحية بيروت الجنوبية، فضلًا عن اغتيال السيد إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، بعد حضوره مراسيم تنصيب الرئيس الإيراني السيد مسعود بزشكيان. وتعتبر تلك الأعمال انتهاكًا صارخًا لسيادة الدول، مما ينبئ عن إجراءات انتقامية مضادة من شأنها توسيع الصراع في المنطقة.
كل ما في الأمر، أن أمامنا في الوقت الراهن خارطة استعمارية صهيونية مجهزة للشرق الأوسط وصفقة القرن، بهدف السيطرة على المنطقة العربية ذات الموقع الاستراتيجي المتميز، والزاخرة بإمكانياتها الهائلة النفطية والغازية والمعدنية.
وعلى صعيد آخر، إن إسرائيل تسعى حثيثًا لأن يكون لها دور في المنطقة من خلال اتفاقيات أبراهام أو إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام، لتطبيع العلاقات مع الدول العربية، كما أراد لها المخرج. مع العلم أن الممارسات العملية للأديان السماوية الثلاثة لا توحي في جوهرها بأي تقارب، مما جعل الاتفاقات موضوعًا يخضع للجدل.
كل ما في الأمر، أنه قد اطلعنا طيلة سبعة عقود منذ أن قامت دولة إسرائيل في المنطقة، على عدة قرارات واتفاقيات لحل الدولتين، ولم تتقيد بإحداها، بل اقتطعت جزءًا شاسعًا من الأراضي الفلسطينية لصالح الاستيطان، وأهم تلك القرارات والاتفاقيات:
1. قرار التقسيم 181 الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29 نوفمبر 1947م، والذي نص على تأسيس دولة يهودية ودولة عربية في فلسطين، فضلًا عن وضع خاص للقدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت وصاية دولية:
2. قرار مجلس الامن 194 الصادر عام 1949م القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
3. قرار مجلس الأمن 242 الصادر في 22 نوفمبر 1967م، وكان عليه ملاحظات على العبارة "الانسحاب الإسرائيلي من أراضٍ فلسطينية"، وليس من الأراضي الفلسطينية، وبالتالي رفضه مجموعة من الساسة الفلسطينيين.
4. قرار مجلس الأمن 338 الصادر في 22 أكتوبر 1973م.
5. اتفاق أوسلو بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي لحل الدولتين، عام 1993م.
6. توافقات دولية أخرى.
7. مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود للسلام في مؤتمر القمة العربية في بيروت، في 27 مارس 2002م.
ضربت إسرائيل عرض الحائط بكل تلك المبادرات والاتفاقيات، مسنودة بدعم الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
يقينًا، إن الحل الأمثل والوحيد لإقامة العلاقات العربية والإسلامية مع إسرائيل يتمثل في مبادرة القمة العربية في بيروت 2002م، على النحو الآتي:
- قدم الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود مبادرة السلام العربية بين الفلسطينيين وإسرائيل المعتمدة في مؤتمر القمة العربية في بيروت 27 مارس 2002م، والرامية إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 4 يونيو 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية، والمشمولة أيضًا بعودة اللاجئين الفلسطينيين، والانسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل إقامة العلاقات العربية والإسلامية مع إسرائيل. ويجب الالتزام بالمبادرة.
حقيقة الأمر، إن الواقع العربي العصيب في الوقت الراهن، والمتمثل بالظروف الاقتصادية والأوضاع الداخلية غير المستقرة في معظم الدول العربية، تتيح للإدارات الغربية الصهيونية والكيان الإسرائيلى المحتل اختراق كل دولة عربية على حدة، وتقييدها باتفاقيات ملزمة، وبما يتفق مع مخططها الماسوني الصهيوني المرسوم للمنطقة وفقًا لمنصوص الوثيقة السرية الصادرة في مؤتمر قمة دول أوروبا الغربية عام 1907م، في لندن، والمعروفة باسم "وثيقة كامبل بنرمان"، رئيس الوزراء البريطاني. وتعتبر الوثيقة بمثابة تدمير للعالم العربي، وتحول دون التقارب بين البلدان العربية، واستعادة الأمجاد العربية، وذلك من خلال القواسم المشتركة التي تربط وتوحد العرب.
قمين بالذكر، أن الوضع في المنطقة يبدو خطيرًا ما لم تقم الدول العربية بمعالجات عاجلة لأوضاعها درءًا للأخطار المتربصة بها، وتحسبًا للتوسع الصهيوني على حسابها، والأمل سيظل معقودًا على القادة العرب إذا ما توفرت الإرادة، والنأي عن كل ما يذكي الخلافات والصراعات الداخلية في البلدان العربية، ومواجهة التدخلات الخارجية في شؤون المنطقة.
جوهر القول، إن اليقظة لازمة، والاتحاد واجب للخروج من النفق المظلم إلى دائرة الضوء والأمل المنشود. والله المستعان.