السمك هو رفيق الإنسان منذ فجر التاريخ، لقد اصطاده وملحه ودخنه وخلله وسقعه وحشاه في صحون الأرز وعلى أسياخ الشواء وأقراص الخبز، وهكذا فلا بد أن تتواجد في طفولة كل واحد منا المقابلة الأولى مع الوزف، وهو الانطباع الذي سيترك في نفسك أثرًا لمدة طويلة.
مازلت أذكر صدمتي البالغة حين رأيت عيون الأسماك الصغيرة المنثورة تحت الشمس كخيوط الفضة. لم يعجبني ذلك المنظر، كما لم يعجبني مذاقه اللاذع بعد طحنه وإضافته إلى الحلبة والعصيد والفتة. ولطالما تعجبت من تهافت الكبار عليه.
ثم كبرت ودرست التغذية العلاجية، وحين تخوض تخصصًا كهذا لا يسعك إلا أن تهتم وتبحث وتتعلم.
الوزف له شكل صغار السردين المجفف، وفوائد السردين المجفف، وأضرار السردين المجفف، وذلك ببساطة لأنه سردين مجفف!
السردين من فئة الأسماك الدهنية، وهي الأسماك الغنية بأوميجا 3، أحد أهم أنواع الدهون الصحية، ولأن دورة أعمار السردين قصيرة، وسرعان ما يتم اصطيادها، فيصعب تراكم المعادن الثقيلة السامة فيها، مثل الزئبق والكادميوم والرصاص، وهي مواد شديدة الخطوة تلحق أضرارًا على مستوى العقل والجسم، خصوصًا في النساء الحوامل.
كغيرها من الأسماك، فالسردين مصدر غني للبروتين، وخالية من السكريات، مما يجعلها مثالية لمرضى مقاومة الأنسولين.
وحين يتم تجفيفها تتركز كميات الكالسيوم والفوسفور واليود بشكل أعلى، فإذا أحكمت إغلاقها، وسيطرت على تسرب الرائحة منها، فستصبح هدية مثالية لزيارة مريض مصاب بالكسور.
والحقيقة فإن تاريخ الوزف قديم جدًا، ويحظى بتقدير كبير في شرق آسيا.
في اليابان يقام مهرجان سيتسوبون في بداية فبراير من كل عام، للاحتفال بقدوم الربيع. ويحتفل اليابانيون فيه بحرق رؤوس السردين المجففة والأخشاب المقدسة على صوت طرق الطبول، منذ مئات السنين.
يؤمن اليابانيون أن صغار السردين تجلب روح الثراء، فيعمدون إلى حرق رؤوسها لنشر رائحتها بالهواء، مما يجلب الحظ، ويردع الأرواح الشريرة. وفي حين أن هذه العادات لم تعد شائعة الآن، إلا أن عددًا قليلًا من الناس مازالوا يزينون مداخل منازلهم برؤوس السردين وأوراق الأشجار المقدسة، حتى اليوم.
تعود القصة إلى شواطئ كوجوكوري اليابانية الدافئة، وهي بيئة مثالية لنمو الأسماك. وحين تعلم الكوجوكوريون صيد السردين في نهايات القرن الخامس عشر، حاولوا إطالة مدة الاستفادة منه عن طريق تجفيفه ونقله إلى بقية القرى المحيطة، وسرعان ما أصبح مصدرًا غذائيًا مطلوبًا يتم تصديره إلى جميع الأنحاء، ومكونًا أساسيًا في صناعة الأسمدة الزراعية وتغذية الحيوانات، وطعمًا ممتازًا لاصطياد بقية الأسماك بكميات وفيرة.
وهكذا جلب السردين معه البطون الممتلئة والأراضي الخصبة والماشية الصحية، ومازال اليابانيون حتى اليوم يحتفلون بقدوم موسمه في مهرجان سيتسوبون من كل عام، كرمز لاستقبال الثراء والحظ والوفرة ودرء الشر والفقر.
كيف تسع هذه السمكة الصغيرة لكل هذا؟
يصعب تخيل الأمر أمام منظرها المرمي على الأرصفة المتربة ككل شيء آخر في اليمن باهت ومهمل، وكونه لا يتم رصها بعناية في علب معدنية، وتعليقها على أرفف السوبر ماركت النظيفة والمكيفة بفارق سعر مرتفع، لا يقلل من حقيقة منفعتها، وجودة الثروة المحلية.
ولا ينكر أنها لحم الفقراء الذي اقتات عليه اليمنيون منذ القدم، ولعله المصدر الوحيد للبروتين الحيواني الذي مازال في مقدرة بعض الأسر اليمنية.
وفي حين أنني مازلت حتى اليوم لم أتفق مع الكبار الذين تلذذوا بإضافته للعصيد، لكنني أفهم تمامًا السحر الكامن في هذه الأسماك إذا وجدت الاهتمام المستحق والاستغلال الصحيح لثرواتنا السمكية.