مدخل:
في مقالة قيمة لصديقنا العزيز د. ياسين سعيد نعمان، والمعنون تحت العنوان التالي: الجنوب وخيارات نخبه السياسية... بعيد قراءته قفز لذهني مباشرة قول آخر أكد عليه الراحل العزيز الدكتور أحمد شرف الدين، إذ أكد أن الثالوث المكون تاريخيًا شمالًا من مركب قوى القبيلة والقوى المتمذهبة وقوى الأمن بكافة تشكيلاتها، هذا الثالوث الأخطبوط قد شكل عائقًا موضوعيًا أمام تعزز وشائج ومتانة وقوة مداميك الدولة ومفهومها كإطار ناظم وحامٍ لمصالح المجتمع وكافة القوى المجتمعية، بما فيها تلك القوى التي حاولت وتحاول التفرد، تلك القوى التي تمثلت تاريخيًا بثالوث القبيلة ومكانتها والجيش وكهنوت تكونه وقوى الأمن وشيطنة محتواه بعيدًا عن حماية مصالح النظام العام وجماهير الناس وحماية مصالحهم، مع ضرورة التأكيد تاريخيًا أن فلسفة مكوني قوى الجيش والأمن إنما يكمن وجودهما لتأكيد أزلية وأحقية هيمنة وسيطرة قوى القبيلة عليهما باعتبارها التعبير التاريخي الناظم للحياة السياسية والاقتصادية وحياة المجتمع بشكل عام، من هنا يصبح مفهوم النخب مفهومًا ذيليًا تابعًا وخاضعًا لقوة هذا الثالوث المحتكر بعد ذلك للسياسة والمال وكافة القوى والتعبيرات من اللاعبين داخل حلبة السياسة المغلقة باعتبارها سيركًا محكم الإغلاق، وأية محاولة للخروج منه تصاحبه لعنات القبيلة وتعبيرات قواها، لتبدأ معها مفاعيل جهنم الحمراء تحرق وتلتهم كل من يحاول مجرد التفكير بالخروج... تلك كانت سيرة الحراك السياسي التي طبعت الحياة السياسية شمالًا، ومحاولات الاختراق جوبهت بجبروت الثالوث، وزادت خطورته حين مدت له سبل البقاء والديمومة، بل الحفاظ عليه من أية قوى مناوئة من خارجه، أي من دول الجوار، وتلك مسيرة تاريخية لها فصولها وأنيابها ماتزال تعبث حتى اليوم... وهكذا استمرت الصورة حتى اليوم.
على ما سلف نواصل بالتحرك جنوبًا مع ما تضمنه مقال عزيزنا دكتور ياسين، إذ يجد المرء نفسه أمام مهمات تاريخية كانت وماتزال ماثلة تتطلب مواصلة السير، ومن مواقع تلاقٍ، وليس مواقع يضعفها التنازع والخلافات، أو هكذا ترى نظرية علم السياسة لأي دور ينبغي أن تضطلع به أي من قوى المجتمع السياسي والمدني الأكثر تأثيرًا وحضورًا بالساحة السياسية، أو هكذا ينبغي أن تكون الأمور... هنا نخطو ونحن نقرأ ما خطه الأخ ياسين وهو يغوص في فسيفساء معترك تاهت من خلاله قوى سياسية، واختلت مكانتها السياسية والاجتماعية، مثلها مثل كثير من القوى والتشكيلات السياسية في الجنوب التي اتخذ لها تسمية النخبة السياسية وخياراتها السياسية، حيث وجدت نفسها بعيدًا عن مهماتها الوطنية تخوض صراعات جانبية بعيدًا عن مهماتها الأساسية جنوبيًا ووطنيًا، لتجد نفسها في أتون صراعات أبعد ما تكون عن مهماتها التاريخية، باتت أسيرة ماضٍ مختنق فهمًا وتقييمًا، كما باتت تتصارع بعيدًا عن عناوين الصراع الأساسي، مما أدى وقاد بالضرورة لتتحول خلافاتها المبررة والمشروعة إلى تباينات تناحرية حول الكثير من ملفات الساعة جنوبًا أولًا، وارتباطًا مع ذلك شمالًا قادت بالضرورة لتطفو على سطح وجوهر علاقاتها عناوين صراعات حادة تستفد منها قوى في مواقع أخرى داخليًا وخارجيًا.
وأجدني أسير ذات المسلك الذي أكد عليه د. ياسين وأزيد القول قولًا آخر بأن خيارات الجنوب ونخبه السياسية ليست بعيدة كل البعد عن النخب خيارات السياسية شمالًا، وخياراتها السياسية مع كل ما يطلى على قشرتها وجوهرها من عناوين تحتاج لوقفات... لكن السؤال الذي يطرح نفسه ونحن نتناول دور ما تسمى النخب السياسية بين قوسين، وكأنها ترى ويتراءى لها أنها المركز المتميز والمتفرد وصاحب الامتياز، بل الأنكى تتخيل كأنها الحامل الوحيد، وكأنها الواحد الأحد الذي دونه ينتهي وجود السياسة ومكانة وتأثير أي أثر لأي حراك سياسي وطني آخر... هنا أقول إن الأمر معقد ومعقد جدًا، بخاصة وأنا أتفق مع ما ذهب إليه دكتورنا العزيز بالقول إن المشكلة التي تجابه دور النخب، أهمية إدراك وفهم أن التباينات بينها تمثل عائقًا يمكن تجاوزه متى توفرت الإرادة المستقلة، لكن المشكلة الأكثر تعقيدًا إنما تتمثل وتكمن في أن قرارًا ما قد اتخذ في مكان آخر.. مما يقضي بتطور الخلاف إلى صراع... صراع يأخذ صورًا من صور حروب متعددة سادت وماتزال تسود. وللأسف الشديد فإن النخب التي تنشد دورًا مميزًا مستقلًا لها، باتت جزءًا من الإشكال الذي حول الخلاف إلى صراع، مما فقدت معه تلك النخب دورها التاريخي المفترض، لتتحول إلى مجرد تابع للأسف الشديد.
ليس في ذلك أي ادعاء ولا تطاول على مكانة أحد، لكن هذا ما يقوله واقعنا المؤلم شمالًا وجنوبًا، حيث التفتت والتشرذم والذيلية والتبعية هي العناوين التي يشي بها واقعنا المأزوم المفتت.
صورة مؤلمة كهذه تقودنا وتدعونا لتبين المعنى الجوهر لمفهوم النخب أو النخبة!
النخبة أو الصفوة، أو الإيليت كما تعرف، إنما يقصد بالنخبة تلك المجموعة البشرية التي لا يتم تخليقها في المطابخ السياسية وبيوتات التمويل التي تدير مشاريع جيوسياسية، وتنتج على الأرض قوى تخلق من العدم ودون سابق إنذار، قوى تلعب دورًا مغايرًا لما أنتجه نضال وحراك وتاريخ الحركة السياسية من أحزاب ومؤسسات نقابية وهيئات مجتمعية تعبر فعلًا عن مصالح شرائح مجتمعية كاتحادات العمال واتحادات المرأة، ومؤسسات الثقافة والفكر المستقلة كاتحاد الأدباء والكتاب والشباب ونقابات الصحفيين المستقلة، إذ سبق الإطاحة بها إطاحة ذات آثار سلبية لعبت دورًا في تشوية بيئتها الثقافية والسياسية عمدًا، مما مهد الساحة السياسية لمن لا علاقة لهم بجذرية الصراع والنضال الذي على أساسه ومبادئه تنامت ونشأت تلك الأشكال التاريخية التي كانت تعبر بحق عن مفهوم حقيقي لمعنى النخبة بعيدًا عن ابتذال اليوم الذي بتنا نتحسر معه على تاريخ تم هدم صرحه وأسسه بقصد وتعمد يحمل أهدافه السياسية والثقافية حتى وإن كانت ذات أبعاد تدميرية لمرحلة بكل إرثها مؤسسات وبيئة وثقافة ودور تاريخي يدمر عمدًا...
نعود لتناول التعريف العلمي لمعنى النخبة، إذ العلم والسياسة يؤكدان على أن النخبة السياسية هي مجوعة أو قوة ذات تأثير حقيقي كسبته من مواقع انتماء مجتمعي ذات تأثير سياسي تمتلك تأثيرًا وقدرات لا تفرض بالجاه ولا بالمال ولا بقوة الانتماء ولا بالانتماء لما هو أدنى من الانتماء والالتزام الوطني المدني... باتت النخب الآن تتزيا عرف القبيلة ورباطها، وتتخذه عنوانًا لوجودها ودورها السائدة، ونجد أنفسنا لا نتوانى قيد أنملة عن وصفها بأنها نخب من القماش الهالك الركيك، نخب هشة تتزيا بما ليس ذا صلة بمن تقول إنها تمثل خط الدفاع الأول عنها... هي شكل اغترابي سنده القوة والمال ولا شيء آخر، مجاميع فقدت صلتها بالناس، وباتت مصابة بأزمة جيوب أنفية حادة، جيوب بها التهابات حادة تكاد تصل حتى رأس الجمجمة، تفكيرها منقاد نحو الممول والراعي والكفيل، والذي على هدى مشورته وإشارته تسير...
فعن أية نخب نتحدث إذن؟ إن كان الحديث عن مثل هذا النوع الركيك المهلهل التابع لهذه أو تلك من الجهات، فلا خير يرجى من هكذا نخب فقدت بوصلتها وانتفخت جيوبها الأنفية مع الجيوب الأخرى، وليتهم يعملون بما قالته الآية الكريمة: "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" صدق الله العظيم.