في مقاله القيم، بجمعه الرصين السلس بين الأكاديمية والأدبية الصحفية معًا، عن الموشحين الحميني والأندلسي*، يذكر الأستاذ مصطفى راجح، مستندًا إلى الظفاري، ثلاثة أنواع من الموشح الحميني؛ أولها وثانيها: المبيَّت، والمبيَّت المسمط. أما ثالثها فهو الموشح المنتظم الذي يعنينا هنا؛ إذ تنتمي إليه حمينية ابن شرف الدين الرائعة خلِّي صَقيل الترايبْ، التي نحن بصدد التحويم حولها بفصولها الثلاثة المتماثلة التي يحتوي كل فصل منها على ثلاثة أقسام منتظمة (البيت -التوشيح -التقفيل)، هي ما يجعلها موشحًا منتظمًا.
وإذا كانت تشترك في ذلك مع كل حمينيات هذا النوع من الموشح اليمني، فإن ما يميز هذه المنظومة بين نظائرها من حمينيات شاعر كوكبان واليمن كله، هو جعله التوشيح فيها ضافيًا ممتدًا على غير العادة؛ فهو ثُماني الأشطر مستقل بقافيتيه ونمط وزنه عن البيت قبله وعن التقفيل بعده، كما يتضح من فصلها الأول الذي نورده مفصَّلًا كالتالي:
بيت:
خلِّي صَقيل الترايبْ/ باهي الخُديد المورَّد
قدِّهْ شَبيه ام كَواكِبْ/ لؤلؤ مكنّن بعسجد
وَغُرَّتِه في الذَّوايِبْ/ مصباح في الليل يَصعَد
ما فيه عَيبٌ لعايبْ/ مَن رَاه، هَلَّل وَشَهَّد
توشيح:
السحر في أحومِهْ/ يَسقي سيوفَ الحوَر
وَالخَدّ ما أَنعمهْ/ فيهِ الندى وَالشرَر
وَالخَمر في مبسمِهْ/ وَالشهد بينَ الثغَر
أظنّ، لَو أَلثُمهْ/ لَذابَ قَلبي قُطَر
تقفيل:
وَجهِه قَمَر في غياهِبْ/ من شَعر فينان أَسوَد
وَسهم عينيهِ صايِبْ/ يَقتل وَلا جَرح يوجَد
فالبحر واحد كما ترى، وهو المضارع الثماني الأشطر في البيت والتوشيح، والرباعي الأشطر في التقفيل. لكن الشاعر، في التوشيح فقط، يستعمله بتغييرٍ في الوزن طفيفٍ جدًا؛ غير أنه كافٍ لخلق تنويع نغمي إيقاعي فائق التطريب في السياق العام لكل فصل وللمنظومة بعمومها. فوزن كل شطر من الأشطر الثمانية في البيت (مستفعلن فاعلاتن) وفي التوشيح (مستفعلن فاعلن)؛ ليعيدنا التقفيل بوزنه بعد ذلك إلى نفس وزن البيت؛ لكن بنصف عدد أشطره. ويتكرر ذلك النسق بطبيعة الحال في باقي فصول المنظومة التي يتألف كل واحد منها بأقسامه الثلاثة من عشرين شطرًا!
أما التنويع القافوي المنتظم بين أقسام الفصل الثلاثة فيسير على هذا النحو (أ/ب، أ/ب، أ/ب، أ/ب. + ج/د، ج/د، ج/د، ج/د. + أ/ب، أ/ب.)، بحيث يسهم مع التنويع الوزني المذكور آنفاً في توقيع ما تتميز به المنظومة كلها من التلوين الموسيقي المطرب الرفيع الذي ما كان له أن يخلدها بالطبع لولا تكامله معنويًا مع ما يحلق بها تصويرًا وتعبيرًا من الشعرية العالية المميزة لوشاحي اليمن الكبار، ومن أرفعهم قدرًا بلا شك محمد بن عبدالله شرف الدين.
وهي شعرية تتفاوت على مستوى اللغة تفاوتًا بديعًا هنا بين ما يدخل النص الشعري في الفصيح مرةً كاستعمال لفظة "عيبٌ" استعمالًا إعرابيًا صحيحًا منوَّنًا، وبين ما يأخذه أحيانًا إلى الدارجة العامية على نحوٍ أخَّاذٍ يسهم في تلوينه الجمالي المحبب إلى القلوب، مثل "قد ناولك قاح بقاح"؛ مع ما بين هذين الطرفين من الخصائص والسمات التي استوقفت ذات يوم أستاذنا الجليل (الراحل منذ خمس عشرة سنة، يوم 12 يوليو 2009، الذي توافق ذكراه غدًا) الدكتور جعفر الظفاري؛ فسمَّى مجموعَها: الميسم الفني الخاص بشاعر كوكبان.
وإلى أن نعود لهذا الشاعر العلم الذي تغري كثرة روائعه -واستمرار رنينها الفاتن في ذائقة اليمن وأدب غنائه الفريد- بالوقوف المتكرر عند معينه العذب، نكتفي ختامًا بإيراد ما بقي من منظومته هذه المغناة منذ قرون، والتي قيل إنه رثى نفسه بتقفيلها الأخير؛ إذ لم يطل به المقام، فتوفِّي بُعيد نظمها:
فَانْ متَّ انا عَنْك غايبْ/ قل: يرحم اللَّه محمدْ
عَزَّت عليهِ المطالبْ/ وَماتَ، مسكين، مُكْمَدْ
فلعل من المفيد قراءتها في ضوء ما سبق الإلمام السريع به على سبيل التنويه فحسب.
(2)
يَفترّ عَن ثغر دُرِّي/ مَنظوم في سلك ياقوتْ
يَجري عليه ريق خمري/ أَلَذّ من نهر طالوتْ
وَحُكمَ الَاقدار تَجري/ من طرف يعبث بهاروتْ
من خمرة الكاس شارِبْ/ أَما تَرى كَيفَ عَربَد؟!
بَدري كبدر الفَلَكْ/ أَخذ عُقيلي، وَراح
يا قَلب ما قلت لَكْ/ دَع عنك حبَّ الملاح
يا طرف ما أَجهلكْ/ تترك فُؤادي مباح
عشقت من يقتلَكْ/ قَد ناوَلَك قاح بقاح
يا قَلب كَم لَك عَجايبْ/ مازحت مَن بِالهَوى جَد
وَأَنتَ، يا ذا المُجـانِبْ/ بِاللَّه هَل للجَفا حَد
(3)
لَو يَسمَح الدهر لَيلةْ/ يلفُّ بينكْ وَبَيني
فوجنتَك ذي الأسيلةْ/ فِتنة لِقَلبي وَعَيني
وَذي العُيون الكَحيلةْ/ راحَت بِعَقلي وَديني
كَم لي عليكْ دمع ساكِبْ/ وَكَم نُهيدات تصعَد
أَقسمت ما لك مثالْ/ لصورتَكْ في الصُّوَر
وَلا حكاك الهِلالْ/ وَلا حكاكَ القمَر
لَو رَاكَ يوسف لَقالْ/ تَاللَّه، ما ذا بشر
حَياة مِثلي مُحالْ/ إِن لَم تُنِلني الوطَر
فَانْ متَّ انا عَنْك غايبْ/ قل: يرحم اللَّه محمدْ
عَزَّت عليهِ المطالبْ/ وَماتَ، مسكين، مُكْمَد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"الموشح الحميني والموشح الأندلسي: ترحال يمني بين نغمة الجذور ونغمة الفاتحين"؛ موقع بلقيس، 21 مارس 2024.