هناك نوع من الرجال عندما تتعرف بهم ولو لفترة وجيزة.. يحتلون المكانة الأحب إلى نفسك مهما طال الزمن أو قصر.. يستحوذون على كيانك كله بلا استئذان.. يفتحون قلبك ويتربعون بداخله.. عبدالصمد القليسي واحد من أبرز هؤلاء الرجال..
رأيته للمرة الأولى في عدن، 1986م، في قاعة محاضرات من قاعات كلية الطب بجامعة عدن.. جاء على رأس وفد من قيادة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، للإشراف على انتخابات فرع الاتحاد بعدن.. وكانت عدن خرجت منذ مدة قصيرة من أحداث 13 يناير المؤسفة.. قام أحد الحضور من المزايدين لا أرى موجبًا لذكر اسمه، وطلب من الحضور إصدار بيان باسم الاتحاد، يدين الرئيس علي ناصر محمد الذي دمر الحزب الاشتراكي اليمني، كما قال.. وكال من الالقاب المعتادة للرئيس الكثير مما اعتاد الحزبيون كيله لكل من يزاح عن السلطة! فقام الأستاذ عبدالصمد معترضًا.. وصحح للمزايد عباراته بقوله: إذا كان لا بد من إصدار بيان، فلتذكر فيه الحقيقة التي يعرفها الجميع، وهي باختصار أن الحزب الاشتراكي كله قد دمر نفسه بنفسه! ولم يصدر أي بيان!
في نفس العام دخلت المستشفى الصيني بكريتر لإجراء عملية جراحية صغرى، وكان للمستشفى لجنة من كبار الجراحين المشهود لهم بالكفاءة.. لكن الأستاذ عمر الجاوي أراد أن أسافر معه إلى صنعاء، وفيها مستشفى روسي عالي الكفاءات الطبية، وسيعمل على دخولي إليه للعلاج.. وهناك كان الأستاذ القليسي الذي لم يفارق صحبتي هناك، بكرم زائد منه، كان يعرف من الأطباء هناك ما يكفي لدخولي للعلاج فيه.. وقام بما يلزم لترتيب علاجي.. واتفق وحدد موعد الأدميتانس للمستشفى، ولا أنسى صباح ذلك اليوم البهيج الذي أخذني فيه أولًا إلى بيته بمدينة حدة للفطار.. ثم ننطلق إلى المستشفى.
على غير عادة أهل صنعاء، كان الأستاذ القليسي يعيش كأنه أجنبي هناك.. فلا يتعاطى القات، ودائمًا في ملبسه المفضل الأبيض بالشورت والقميص الأبيض الاسبور كأنه ذاهب إلى مباراة للعبة التنس! تحمل مشكورًا مشقة إجراءات الدخول، وتعرفت منه على طبيب يمني رائع من خيار الناس، لقبه طشان إذا لم تخني الذاكرة، ثم قدمني للدكتور الجراح، مجري بالغ التهذيب عظيم الكفاءة! وتحدد عنبر إقامتي هناك.. تدير شركة فليبينية أو كورية شؤون المستشفى ونظافته كأفضل ما يكون.
في اليوم التالي أخجل الأستاذ القليسي تواضعي.. جاء لزيارتي محملًا بعدة كتب وسلة فواكه موسمية غاية في الذوق.. كأنه أخي وأبي وصديقي مجتمعين.. كل شيء كان على أفضل ما يرام لولا منغص واحد لأحد المرضى في العنبر الذي يحوي 6 مرضى على ما أذكر.. صدق من قال: الآدمي كله مجرد رمو! كان في العنبر رجل مسن يبدو أنه من علية القوم مصاب بنوع من السرطان تم بسببه تقطيع نحو ثلث جسمه.. وكان نزلاء العنبر كلهم يكممون أنوفهم من روائح السرطان.. وأفعل كماهم.. وحتى عامل النظافة الكوري، أو الفليبيني ما عدت أذكر، يضع كمامة شديدة الإحكام حول أنفه قبل دخوله.. وقد أعيى المريض أهله الذين ملأوا المكان برشاشات الروائح والعطور.. ولكن هيهات! إذا شعرت بالاختناق قبل النوم.. أخرج ببطانية كثيفة للنوم في البلكون الذي كان بجواري لحسن الحظ.. وبرغم برودة جو صنعاء، إلا أن جوها الحميم أرحم ألف مرة من روائح السرطان الآدمي!
بعد العملية التي كانت ناجحة بفضل الله والأستاذ عبدالصمد.. انتقلت بضعة أيام إلى فندق كبير وسط أسواق صنعاء اسمه المخا، وكان شهيرًا وقتها.. ثم انتقلت إلى فندق آخر أفضل اسمه الإخوة، كان بجوار مقر اتحاد الأدباء.. ولم يقصر الأستاذ القليسي في الطواف بي في أرجاء وضواحي صنعاء الجميلة التي كانت وقتها ترتدي أجمل وأغلى وأفخم حللها.. لم تعد "جوهرة بيد فحام" كما قال الريحاني.. فعاشت أبهى سني عمرها قبل نكبة الحوثيين الإيرانية!
فقط.. لو أمدنا الزمن بالمزيد من الفسحة وسخاء التوقيت.. وحسن الظن والعمل لنستمتع بوطن خالٍ من الشوائب والمنغصات... وكامل غير منقوص.. ليتنا بقينا معًا يا عبدالصمد.. وتقاربت ما بيننا مسافة البعد، فمثلك في الناس قليل.