سجن الحرس بمدخل معسكر طارق، كانت آخر علاقتي بالخدمة في الجيش: سجن لمدة 44 يومًا.. ونزع الرتبة العسكرية.. وحرمان من المسحقات المالية.. وتسريح من الخدمة العسكرية! لم يكن ذلك أسوأ أيام حياتي، بل لعله كان أفضلها، فقد تقت كثيرًا لترك الخدمة العسكرية، وقدمت استقالتي أكثر من مرة، وكانت دائمًا ترفض بعناد! كان الغرض هو طردي كما تبين لي لاحقًا.. فحدثت الدعوى العسكرية التي اعتبرت تمردًا.. وعلى ضوئها حكم عليّ بتلك العقوبة المباركة!
اسم ذلك المعسكر من قبل كان سينجابور لاينس على ما أذكر.. وكان مقرًا لكتائب من وحدات الجيش البريطاني.. وقد صمم السجن الواقع بمحاذاة بوابة المعسكر وقيادة الحرس بمعرفة الإنجليز بطريقة لطيفة ورحيمة.. كل الأسرة داخل السجن مصنوعة بإتقان من الخشب السميك الخالص.. ثمانية أسرة بالضبط.. لكن أبو عرب يسجنون فيه حتى 20 فردًا لو تطلبت الحاجة.. وفي جانب من بهو السجن الكبير تقع 4 زنازين للتأديب الانفرادي.. و3 حمامات، وطرقة صغيرة.. وكان عددنا 12 مسجونًا مور أور ليس! أشهرنا واحد اسمه طارق على اسم المعسكر بالصدفة.. مشاغب.. متململ.. لا يقر ولا يستقر.. يتقنفز كأنه ربح من مكان لا مكان.. طارق..! ووه تارق.. تارق.. قر لك لعيصة.. يشاغبه أحد المساجين، كان طباخ وطرش واحد طباخ بدست مرق لما ملع وجهه ووسخ ثيابه!
ووو تارق.. الحر كان في شدته في شهر يونيو.. ولدينا مروحة واحدة فقط لا غير معلقة بالسقف.. وفي جانب الجدار ركنت خزانات مرصوصة مما يستعمل للوثائق والملفات لا أدري بحكمة وضعها هنا.. ربما عندما أهمل استخدام المكان كسجن جعلوه مخزنًا.. ربما.. وكان تارق يحلى له يتقنفز ويجلس فوق تلك الخزانات! لغاية ما مرة قفز من مكانه بدون حذر، وارتطمت رأسه بذراع مروحة السقف، فضربت جبهته وأحدثت بها شرخًا غائرًا نزف منه دمه بغزارة! والحقونا..! بسرعة جاء قائد الحرس و2 من مساعديه.. ونقلوه لسيارة الحرس.. وساني للمستشفى!
ووه تارق.. سلامات وا تارق.. بس من شدة الضربة اتعطلت علينا المروحة والحمى يضرط الحمير.. الحقنا يا قايد الحرس.. سوي لنا بصر عشان المروحة!
والله وتاني يوم ركبوا لنا مروحة جديدة.. وأنا من زايد نعمة زكنت على مروحة ميز وريديو ترانزيستر جابوها لي من بيتنا!
كان أبي يتحمل مشقة المجيء إليَّ من البيت في الشيخ عثمان، محملًا بطعام الغداء ومتطلبات اللبس وكدا.. وأحرجني ذلك كثيرًا، فطلبت منه الكف عن مشقة المجيء، مطمئنًا إياه بأن طعام السجن وافر ولا ينقطع.. لكنه واصل المجيء أكثر من مرة بعد ذلك... إلى أن توقف بعد أربع أو خمس مرات.. وجاء بالغداء ولد كان يخدم في بيتنا للمشاوير الخارجية.. سألته عن أحوال الوالد، فقال لي تمام، وبخير.. وبس..! لكن بعد 10 أيام داهمني قلق مفاجئ، فكررت سؤالي وكرر جوابه، تمام وبخير.. وطلبت منه في المرة القادمة أن يبلغ أبي بأنني أريده أن يأتي لزيارتي.. لكن المسكين لم يجد جوابًا.. وغطى الحزن وجهه وكأنه يوشك على البكاء! ثم انفجر وصارحني بقوله إن الشرطة ألقت القبض على أبي منذ أسبوع... واسترسل يشرح لي الأسباب!
في تلك الأيام كان صهرنا، زوج أختي، علي عبدالله عيدروس، ابن أخ لسلطان العوالق السفلى في أحور.. عزان.. مسجونًا مع عائلات سلاطين ذلك الزمان.. وطلب الخروج لزيارة عائلته.. ولم يسمح له بذلك بدون ضمانة أحد.. فذهب أبي إلى سجن المنصورة، ومن هناك إلى مديرية الأمن.. وضمن على صهرنا مقابل مبلغ 20 ألف شلن (وقتها كان مبلغًا كبيرًا محترمًا)، ليلتزم بإرجاعه لسجن المنصورة، وإلا يتحمل دفع نفقات عدم إرجاعه! وفي غفلة من أبي قام صهرنا المحترم بالفرار دون إخطار أبي الذي لم يعلم بفراره إلا بعد وصوله إلى السعودية.. وطلبه أن تلحق به زوجته وأولاده، ولد وبنت! ووعد أبي بتسديد قيمة الضمانة بالتقسيط!
وتعكرت بقية أيام حبسي فوق ما هي معكرة... لكن أيامًا قليلة مرت.. ونعمنا ببرود المروحة الجديدة.. ورجوع تارق من المستشفى ورأسه مربوطة بالبانديس الأبيض وكأنه يعتمر عمامة بيضاء... وووتارق... لك لعيصة.. بعد أسبوع من ذا الخبر المش مليح أجا أبي لزيارتي محملًا بغداء البيت.. وبالأخبار السعيدة.. قال إنه دفع فلوس الضمانة العشرين ألفًا.. وانتهت قضية هروب صهرنا العزيز الذي لحقت به عائلته بعد شهر زمان من ذي الخبابير!
وكان يوم خروجي من الحبس من أسعد أيام حياتي.. مش يعني عشان خرجت من الحبس... لا. لا.. الأسعد من هذا كله أننا خرجت من الجيش ذات نفسه! (في التصاوير.. أنا.. وأبي.. وبعض الأصحاب).
أصله أيش يا أصحابي؟ ما عاد شيء كما شيء.. لا مقلقل.. ولا محشي.. الجيش اتبهدل ومعادوش زيما كان.. عشان كدا ما عاد رجيت من الله إلا أننا أتخارج منه مرة وإلى الأبد.