صنعاء 19C امطار خفيفة

سعدي يوسف: ديوان عدن، وفترة "من أبهى ما عشت في حياتي المرتبكة"

سعدي يوسف: ديوان عدن، وفترة "من أبهى ما عشت في حياتي المرتبكة"
في مقال كتبه يوم 23 نيسان/ أبريل 2019، بلندن، يقول سعدي: "بعد أن طردَتْنا دروعُ آرييل شارون من بيروت 1982، غادرْنا إلى منافينا الجديدة... قال لي عبدالله الحنَكي (كان هو نائب السفير لجمهورية اليمن الديمقراطية في بيروت)، وكنا معًا في خطوط التماسّ، حيث أسرَ جنود اليمن الثورية، "أسير الضاحية" الإسرائيلي... قال لي: تعالَ إلى عدن! وقد ذهبتُ، لأعيش هناك فترةً من أبهى ما عشتُ في حياتي المرتبكة".
تلك الفترة عينها (1982 -مطلع 1986) كانت، أيضًا، من أبهى ما عاشه اليمن الجنوبي وعاصمته عدن التي سبق للشاعر الكبير أن زارها لأول مرة عام 1981 -ونزل في "الفندق البحري"، الجولدمور، على ساحلها الذهبي بالتواهي- زيارةً وثقت مشاهداتها قصائد عدة في ديوانه "يوميات الجنوب.. يوميات الجنون" النثري؛ ومنها قصيدة "عصافير":
"فجأةً، وبخطفة واحدة، تطير العصافيرُ الثلاثة/ مبتعدةً عن الفندق البحري...
وتحتَ قميصي ترتعشُ آلافُ العصافير.
الساحل الذهبي، 1/3/1981"
قبل ذلك، كانت صلة سعدي الشعرية بالبلاد ممثلةً تحديدًا بحضرموت، قد برزت لافتةً في رائعته "الأحفاد"، المطوّلة، بأجوائها المستمدة من الملاحة البحرية ووشائجها وسحر حكاياتها التي كان يستقيها في البصرة، كما يقول، من "أحاديث البحارة القدماء... عما يجدونه في البحر من أهوال وعجائب، وعن الحوريات والعواصف"؛ والدائرة في القصيدة كلها حول حضرموت، سفينةً وساحلًا ونبتًا، وجدًّا مهاجرًا إلى البصرة العراقية... أشوقٌ عراقيٌّ، وأنت يمان.
سعدي يوسف- منصات التواصل
لكن الفترة العدنية البهية البالغة التأثير والتأثر بسعدي يوسف، وفيه، هي تلك التي سكن خلالها عدن بقدر ما سكنته، واتخذها مقامًا وأهلًا ظنهما مرسىً أخيرًا له، بدءًا من 1982؛ إلى أن انقطع فجأة، وعلى نحو فاجع، بكارثة انفجار يناير 1986، التي غادر بها مدينته الأخيرة، مودعًا إياها وداع مفارق لا لقاء بعده أبدًا، ولا رجوع؛ إلا تمنيًا وخيالًا. فقد أدرك، وهو يفارق مستقره الحميم فيها، أن عدن نفسها كانت مثله تفارق عدن وإلى الأبد. ذلك ما راحت بمرارة أسيفة تشف عنه قصيدته المكتوبة حينها "وداعًا عدن": "هل تعرفين الوداع؟... وهل تذكرين عدن يا عدن؟".
وهو -رغم مجيئه إلى صنعاء بعد بضع سنين- لم يزر عدن والجنوب، منذ أن ودعها أثناء رحيله -ورحيلها- عنها مستهل 1986، وإلى أن ودع دنيانا كلها مثل هذا اليوم منذ سنوات ثلاث.
بيد أن عدن نفسها لم تفارق سعدي قطّ، منذ أن فارقها! وأنَّى لها؛ وهو القائل عنها تحديدًا "إن مساكننا تسكن فينا"، وهي المحتفظة بمكانة خاصة جدًا لديه بين مختلف مساكنه التي ظلت تسكنه في منافيه، على كثرتها؟ ولبيان مكانتها الخاصة التي نزعمها تلك، نعمد، هنا، إلى التطواف جمعًا لقصائد سعدي المتعلقة بعدن، والمبثوثة بين مختلف دواوينه المنشورة والمتاحة على موقعه الإلكتروني خلال ثمانية عشر عامًا؛ بدءًا بقصيدة "متغايرات1" المكتوبة في 2002 (بعد عشرين عامًا من ابتداء مقامه العدني الذي لم يزد على أربعة أعوام)، وانتهاءً بقصيدة "مكلّا حضرموت" المكتوبة في 2020، بعد نحو أربعة عقود من "الأحفاد" قصيدته الأولى عن حضرموت.
أما حصيلة ذلك التطواف والجمع من القصائد المكتوبة عن عدن -والمتطرقة عرضًا لذكرها- وعما يتصل بها غالبًا من المناطق اليمنية، فتكاد تؤلف ديوانًا عدنيًا يمنيًا خاصًا لسعدي، جديرًا بالإفراد -وبالتنمية، كذلك- تنطبع على كثير من قصائده آثار فاجعة يناير 1986، التي أرغمته على ترك مرساه العدني؛ كما كانت دبابات شارون أرغمته على مغادرة بيروت في 1982. فقد توفرنا حتى الآن على إضمامة من تلك القصائد انتظمت نصوصها مجتمعةً من ثلاثة عشر ديوانًا من دواوينه الصادرة بعد عام 2000، فقط؛ على النحو التالي:
مُتَغايِرات1/ لندن، 10/7/2002، ديوان: شرفة المنزل الفقير.
الليلةَ… لن أنتظرَ شيئًا/ لندن، 31/1/2004، ديوان: صلاة الوثني.
الماندولين/ لندن، 27/10/2004، ديوان: حفيد امرئ القيس.
في صباحٍ غائمٍ/ لندن، 18/4/2005، ديوان: حفيد امرئ القيس.
عدَن 1986… إلخ/ لندن، 4/5/2005، ديوان: حفيد امرئ القيس.
رسالةٌ أخيرةٌ من الأخضر بن يوسف/ لندن، 27/5/2005، ديوان: حفيد امرئ القيس.
العالم كما لا نعرفه/ لندن، 15/4/2006، ديوان: الشيوعيّ الأخير يدخل الجنة.
الشيوعيّ الأخير يسبح في خليج عدَن/ لندن، 31/5/2006، ديوان: الشيوعيّ الأخير يدخل الجنة.
الفتى الأسودُ يطيرُ/ نيويورك، 11/8/2007، ديوان: قصائد نيويورك.
مَنْزَهُ الأنهارِ الثلاثةِ/ لندن، 11/9/2007، ديوان: قصائد الحديقة العامة.
السباحة في خليج عدَن/ لندن، 9/1/2009، ديوان: في البراري، حيثُ البرق.
عدن... أيضاً/ برلين، 18/6/2010، ديوان: أنا برلينيّ؟ بانوراما.
حكايات البحّارةُ الغرباء/ برلين، 2010، ديوان: غرفة شيراز.
متوازيات/ لندن، 7/12/2010، ديوان: غرفة شيراز.
غرفة شيراز/ ستوكهولم، 6/4/2011، ديوان: غرفة شيراز.
سيمفونية مرئية/ لندن، 15/1/2013، ديوان: قصائد هيرفيلد التّلّ.
طريقٌ إلى حضرموت/ لندن، 30/9/2013، ديوان: عيشة بنت الباشا.
عدن أيضاً.../ لندن، 14/2/2014، قصائد مختارة.
سينِما!/ لندن، 19/1/2015، ديوان الأنهار الثلاثة.
"جَنْبيّةُ" القُضاة/ لندن، 20/3/2018، ديوان السونيت.
حضرموت/ لندن، 20/3/2018، ديوان السونيت.
شاطئ رامبو/ لندن، 21/3/2018، ديوان السونيت.
على عدَنٍ مني السلامُ/ لندن، 10/3/2020، قصائد مختارة.
مُكَلا حضرموتَ/ لندن، 25/6/2020، قصائد مختارة.
وكلها يستدعي الوقوف عنده قراءةً وتناولًا لا يسعه المجال هنا. على أن مثالًا مما يستوقف النفس والخاطر من قصائد هذا الديوان المفترض الأربع والعشرين، هو قصيدة "الشيوعيّ الأخير يسبح في خليج عدَن"، المكتوبة في لندن، بعد عشرين عامًا من مفارقته عدن. فبقدرٍ لافت من الغناء الشجي، يستهلها سعدي بهذا السطر الناضح مع الشجن حنينًا متدفقًا بتفعيلة "الكامل"، يسترجع به تفصيلًا اعتياديًا في حياته اليومية أثناء إقامته هناك:
"قد طالَ ما ألقَيتُ أثوابي وأتعابي على حَجرٍ، لأسبحَ في الخليجِ..."
مع ما يطلقه عطف "أتعابي" على "أثوابي" من رنين شعري أخاذ مريح، وخافت كذلك، بحيث يحفظ ألفة اللغة المنسابة في السطر كله انسيابًا تعبيريًا وعروضيًا تنبني بساطته على الافتتاح المتنهِّد "قد طال ما ألقَيتُ أثوابي"، إلى آخر الجملة الشعرية بمختلف أركانها ومحددات محوريتها المؤسسة لهذا النص الرخيم عن خليج الساحل الذهبي الذي يفصله جبل الفنار عن ساحل العشاق في منطقة التواهي العدنية. وتأخذ الأسطر التالية في سرد تفاصيل المشهد المحيطة بالشاعر/ الراوي على ساحل الخليج، كما يتذكره، ومنها فناره الأعمى -المتكرر في عدنياته- وغيره من مكونات المكان المحسوسة، حتى آخرها: "حبْلُ مرساةٍ تَقَطَّعَ قبلَ أعوامٍ"، وما يتولد عنه من ظلال شفيفة ومحرّكة تتعلق في استتار بمساري الشاعر والمكان، اتصالًا وانقطاعًا. فيتصعّد سردها متتابعًا بعد ذلك المدخل مباشرةً:
"إلى يميني شاطئٌ متردِّدٌ بين الحصا والرملِ، ألمحُ في يساري، عاليًا، بين الصخورِ، فَناريَ الأعمى. وكان البحرُ يهدأُ في الخليجِ، وتلعبُ الأسماكُ بالألوانِ: أحمرَ، أصفرَ... الفسفورُ يطفو، والقواقعُ تختفي في الموجِ؛ ثَمَّ هسيسُ أطرافِ السراطينِ الخَفِيُّ. وحبْلُ مرساةٍ تَقَطَّعَ قبلَ أعوامٍ".
لا يبقى بعد ذروة أولى كهذه، أنسب من صعود الراوي بنا نزولًا إلى البحر ليسبح في خليج عدن، مفصحًا عما كان يبتغي حينها الآن من انغمار دائم يتماهى به حلولًا واتحادًا مع عناصر المكان وطبيعته الكلية هناك في هذا المشهد المستعاد من "زمكان" عدن الجميل:
"وأهبِطُ...
كنتُ ألتَمِسُ انغمارًا لا يفارقُني... انغمارًا يجعلُ الجسدَ امتدادًا للمياهِ وللنجومِ اللامعاتِ هناكَ في القاعِ؛ 
انغمارًا لا تُمَـيِّزُ فيهِ بين يدَيكَ والشمسِ".
ومن كشفه المبتغى الغابر/ الحاضر، يرقى النص بالغًا بنا استواءً تقريريًا قاطعًا يتوقف عند حقيقة تفاؤله وثباته حلمًا حتمي التحقق في واقع مستعاد:
"الخليجُ يُطِلُّ من عدَنٍ على عدَنٍ/ ومِن عدَنٍ على يَمَنٍ سيُبْحِرُ في الصباحِ ليبلُغَ الجنّاتِ"
وإذ يتوقف السرد الحسي والمعنوي عند ذروة أخيرة من ترقّيه بذلك، تعقبه أسطر النقاط الثلاثة المعتادة في نصوص الشاعر؛ حيث تمثل انتهاءً مفصليًا في القصيدة، يمهد لانتقال ما في بنائها.
وهو هنا انتقال مؤدٍّ إلى خاتمة لا أليَقَ منها بالنص، ولا أبلغ تأثيرًا وملامسةً للذائقة؛ فتأتي مؤكدةً مكانة عدن الفريدة لديه، وفرادةَ قصيدتها هذه، وشعريتها الثرية بساطةً وعمقًا مرهفًا رهافة ذات سعدي العائد بها شعوريًا إلى عدنه المفقودة المفتقدة، عودةً بهيةً بهاءَ مقامه بها، حتى كأنه لايزال فيها، فلم يغادرها إلى ما لم يعوضه عنها قط؛ وحتى كأنها لاتزال على حالها الجميلة التي أحبها تلك، فلم تنتقل منها إلى نقيضها قط:
"ما أبهى المَعادَ!
كأنني مازلتُ في عدَنٍ؛
وأثوابي وأتعابي على حَجَرٍ هناك!
لندن، 31/5/2006"
خاتمة تكمل الإدهاش الهامس المتسرّب من البث السردي/ الشعوري للقصيدة كلها، وتضفي عليه ما يعمقه أثرًا في النفس يهز ويشجي؛ بقدر ما تزيد بناءها إحكامًا وتماسكًا تعيدنا تلقائيته الغامرة إلى سطرها الأول، الافتتاحي، ومحورية تأسيسه الجمالي: قد طالَ ما ألقَيتُ أثوابي وأتعابي على حَجرٍ، لأسبحَ في الخليجِ...
قبل أن نختم هذا الوقوف مع سعدي يوسف وقصائده المتصلة بعدن، نورد إحدى قصيدتيه الموسومتين "عدن أيضًا"؛ وهي المكتوبة في 14 فبراير 2014، كما هي:
"عدن أيضًا...
ماذا لو أنّي الآنَ في عدنٍ؟
سأمضي، هادئًا، نحو "التَّوَاهي"...
والقميصُ الرّطْبُ، يعبَقُ، من هواءِ البحرِ.
في باب الجماركِ سوف أستأني قليلًا.
ثم أمشي، نحو أطلالِ الكنيسةِ.
سوف أدخلُ:
ثَمَّ أمسحُ من ترابٍ أسوَدٍ، لوحَ البِلى...
بحّارةٌ غرقى أراهم يملأون مقاعدَ اللوحِ العتيقِ
أرى، هنالكَ، بينَهم، لي رفقةً...
وأصيحُ: أحمدُ!
يا زكيّ!
ويا سعيدُ!
ويا
ويا...
إني قطعتُ الكونَ من أقصاهُ، كي آتي إليكم يا رفاقي
فَلْتُفيقوا لحظةً
إني أتيتُ لكم بماءٍ سائغٍ من رأسِ رضوى
جئتُكُم بالرايةِ الحمراءِ
رايتِكُم
سأحملُها، وإنْ وهنتْ ذراعي...
لندن، 14/2/2014"
ولا نكتفي كرهًا بهذا القدر، إلا لنتجه لاحقًا إلى قراءة انطباعية أشمل لقصائد سعدي يوسف المجموعة في هذا الديوان العدني، وغيرها. وحتى يتيسر لنا ذلك، نختتم هنا مقالنا المتزامن مع ذكراه، بقصيدته القصيرة المكتوبة قبل نحو عام من رحيله يوم 12/6/2021، "على عدَنٍ مني السلامُ"، التي يصرّح -في بيتيها الجاريين على تفعيلتي البحر "الطويل"- بتمنيه رؤيتها، وارتياد "التَّوَاهي" فيها، قبل أن يوافيه الأجل؛ حنينًا إلى ما كانت له دائمًا من مقام ورفاق هم الأهل والمعنى:
"على عدَنٍ مني السلامُ
وليتني
أرودُ "التَّوَاهي"، قبلَ أن يُطْبِقَ اللحدُ
لقد كان لي فيها مقامٌ ورِفْقةٌ
هم الأهلُ والكاذيُّ
والبيرقُ الوردُ...
لندن، 10/3/2020"
وعليك السلام أيها "الرجل الكثير"، المعلم، والشاعر الأكبر "الذي لا يشبه أحدًا".

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً