معنى صعود ساركوزي الأمريكي في فرنسا - ثائر دوري
يلخص سمير أمين الأسس التي قام عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية بثلاثة أسس هي : دولة الرفاه في الغرب، و السوفياتية في الشرق، و مشروع التنمية القومية في الجنوب (نقد روح العصر – دار الفارابي ط1 1998). و قد انهارت هذه الأسس تباعاً، فانهار أولاً مشروع التنمية القومية في الجنوب، ثم الدولة السوفياتية، و بقيت دولة الرفاه في الغرب تنازع الفناء في بعض الأماكن و تنهار في أماكن أخرى، و إذا أردنا أن نذكر اسم دولة تلقى محاولات تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي أقصى درجات المقاومة فعلى الفور يحضر على اللسان اسم فرنسا، فهذا البلد يتميز بوعي سياسي عالي لأنه وريث تقاليد الثورة الفرنسية و عصر الأنوار، و لديه حركة نقابية وطلابية ذات تراث نضالي كبير، كما أنه ينظر إلى نفسه كقطب عالمي يتحدى الأمركة خاصة في المجال الثقافي، و يحاول ذلك بغير نجاح كبير في المجال السياسي منذ عهد الجنرال ديغول إلى عهد تكراره الكاريكاتوري شيراك.
لكن يبدو أن الهوس أو الفيروس الليبرالي (حسب تعبير سمير أمين نفسه) قد تمكن من الفتك بالديغولية التي تشكل عماد السياسة الفرنسية بل الأوربية المستقلة عن أمريكا، هذا ما يشير له حدث ترشيح وزير الداخلية ساركوزي، أو ساركوزي الأمريكي كما يسميه بعض المعلقين السياسيين في فرنسا، كممثل لليمين الديغولي في انتخابات الرئاسة الفرنسية القادمة.
يمكن القول براحة ضمير أن ساركوزي هو مزيج من توني بلير وبيرلسكوني رئيس وزراء ايطاليا السابق. فهو كبلير ينظر بإعجاب كبير للنموذج الأمريكي ويعتبر أن مستقبل أوربا متوقف على تبني هذا اقتصادياً و سياسياً، فقد صرح علناً أنه يختلف مع شيراك من موقفه العراقي عام 2003، و خلال صيف 2006 أيد بدون تحفظ الهجوم الصهيوني على لبنان، و قبل أيام أدلى بتصريح شبه أمريكي حول ايران، كما أنه كبرلسكوني مدعوم من امبرطورية إعلامية ضخمة استطاع أن يبني علاقات ود مع أباطرتها خلال سنوات طويلة، فقد تبادل الخدمات معهم في كل المناصب التي استلمها منذ كان رئيساً للمجلس العام لمقاطعة السين العليا وهي الأغنى في فرنسا، ثم وزيراً للمالية، و بعدها للداخلية. و للدلالة على عمق الحلف غير المقدس بينه و بين امبرطورية الإعلام نشير إلى أن مدير مجلة "باري ماتش" طرد من منصبه لأنه تجرّأ ونشر صورة لزوجته مع صديقها في حزيران 2006(لوموند ايلول 2006 - أوليغارشيا الإعلام تتوّج ساركوزي سلفاً). كما يشير السيد فرنسوا هولاند، السكرتير الأوّل للحزب الاشتراكي،إلى الغرام بينه و بين وسائل الإعلام. فما من رجلٍ سياسيّ آخر دُعيّ ثلاث مرّات إلى برنامج "100 دقيقة للإقناع" على محطة "فرنسا 2"". وفي كلّ مرّة يكون المشاهدون على الموعد (بين 4 و6 ملايين مشاهد)، كما يترجم هذا الغرام بينه و بين وسائل الإعلام بالأرقام "فمنذ عودته إلى وزارة الداخلية في ايار/مايو 2005، حاز السيّد ساركوزي على اهتمامٍ شهريّ بمعدّل 411 مقالاً مقابل 220 لدومينيك دو فيلبان" " لوموند نفس العدد السابق".
و بمحصلة الأمر إذا كنت مزيجاً من بلير و بيرلسكوني فمن البديهي أن تكون أمريكياً و صديقاً للأغنياء، أي أن تكون ليبرالياً جديداً، و برنامجك الاقتصادي سيكون معروفاً، فالسيد ساركوزي يرى أن مشكلة الفقراء تكمن بأنهم فقراء متخلفون، همج، حثالة، كما وصف المنتفضين من أبناء الضواحي، و بالتالي لا حاجة لتقديم أية مساعدة لهم، فليتدبروا تعليمهم و طبابتهم و أمنهم و معيشتهم، و التدخل الوحيد الذي يقترحه هو التدخل الأمني حسب ما يرى السيد ساركوزي وأمثاله من الليبراليين من أجل أن يتحرر رأس المال العولم من عبء الأجور و الضمانات الاجتماعية و يتمكن من المنافسة في الخارج. مما يعني أن تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية صار ضرورة ملحة ليتمكن رأس المال الفرنسي و الأوربي المعولم من المنافسة.
لكن هل يحتمل الوضع الفرنسي سياسات ساركوزي الليبرالية ؟
هناك عدة مؤشرات خلال العام الماضي تدل على أن المجتمع الفرنسي يتجه لرفض الليبرالية المعولمة التي يقدمها ليس ساركوزي الأمريكي فقط، بل و شيراك الديغولي وتلميذه دوفيلبان، أيضاً،بعد أن استحما بماء الليبرالية البارد فأعطبا الديغولية في زمان تبدو أوربا بأشد الحاجة إليها. إذ رفض الفرنسيون الدستور الأوربي المعولم الذي لا يقيم اعتبارا سوى لمصالح رأس المال ويجرد السلطات الوطنية المنتخبة من سلطاتها لصالح مؤسسات بيروقراطية غامضة لا سلطة للمجتمع عليها. ثم انتفضت الضواحي ضد التهميش وهو عرض أساسي للسياسات الليبرالية، وبعدها انتفض الشباب والطلاب ضد قانون عقد العمل الأول الذي يجردهم من كل حماية قانونية يتمتعون بها و يتركهم عراة أمام أصحاب العمل. أما بالنسبة لمستقبل الإتحاد الأوربي فإن صعود أمثال ساركوزي إلى سدة الحكم في أوربا سيطيح بالمشروع الأوربي المستقل لصالح المشروع الأطلسي، أي أوربا تحت المظلة الأمريكي، يقول سمير أمين :
«تمثل الليبرالية اليوم تحدياً خطيراً للبشرية، جمعاء، حيث تهددها بالإفناء الذاتي. و في الوقت نفسه لا تستطيع الليبرالية المعولمة إلا تدعيم السيطرة الإمبريالية الأمريكية على مجموع الكوكب، باستتباع أوربا، و إخضاع بقية العالم بوسائل وحشية لم يسبق لها مثيل في التاريخ، للنهب، دون استبعاد الإبادة الجماعية إذا لزم الأمر.« «الفيروس الليبرالي الحروب الدائمة و أمركة العالم – سمير امين – دار الفارابي – ط1 2004»
و حسب سمير أمين إن التفاف الدول الأوربية حول المفاهيم الليبرالية يعني حكماً اختفاء الاستقلال العسكري و الاقتصادي الأوربي و الخضوع للسيطرة الأمريكية (نموذج بريطانيا و بولونيا).
أما البديل عن كل ذلك فهو القطيعة مع السياسية الليبرالية، و إعادة بناء أقطاب جديدة في السياسات الدولية، و الاستفادة من الفرصة النادرة التي يمنحها الغرق الأمريكي في المستنقع العراقي لبناء أوربا جديدة، اجتماعية، مستقلة سياسياً و اقتصادياً، و حليفة موضوعياً لمعسكر التحرر و المقاومة في العالم الثالث و رأس هذا المعسكر يقع في الوطن العربي. و قد رأينا أمريكا اللاتينية تفعل ذلك فتضع اللبنة الأولى لبناء نظام علاقات دولي جديد عبر تحررها من الهيمنة الأمريكية سياسياً واقتصادياً، و ذلك عبر القطيعة مع السياسات الليبرالية الاقتصادية، كما نرى في فنزويلا و بوليفيا اليوم. أما أوربا فيبدو أنها تسير عكس منطق التاريخ اليوم و تفضل التبعية لأمريكا على أن تكون مستقلة و حرة، فهل هرمت بفعل شيخوخة حضارتها و إفلاسها،كما ينقل غسان الرفاعي عن غارودي، إذ يقول:
«أنا غربي من رأسي إلى أخمص قدمي، غربي في جذوري، في ثقافتي، في اعدادي التربوي، لكني أعترف أن الغرب قد أفلس».
و يقترح غارودي على الغرب أن يصغي إلى الحضارات الأخرى التي تقدم حلولاً أكثر إنسانية من حضارته المتفوقة بالقتل و التدمير فقط (جريدة تشرين السورية العدد 9765 14 كانون الثاني 2007 – العجوز المتمرد و طليعة الإنحطاط – غسان الرفاعي)
فهل تسمح فرنسا المجتمع بإطلاق رصاصة الرحمة على المشروع الأوربي المستقل و تلتحق كتابعة لأمريكا المتهاوية المفلسة المهزومة. أم تنتفض و تفتح لنفسها أفق تاريخي جديد عبر إصغائها لحضارات الجنوب هذا ما سنراه في الانتخابات الفرنسية القادمة، و أنا اعتقد أن نتيجة معركة العراق سيكون لها تأثير كبير على خيارات الفرنسيين.
أخيراً إن نزعة الالتحاق بأمريكا كتابع هي نزعة عميقة الجذور في أوربا و تطفو على السطح أكثر ما تطفو في أوقات الأزمات، و هي بالمناسبة اتجاه عابر للأحزاب لا يفيد معه التصنيف الحزبي التقليدي فقد يكون المرء اشتراكياً و موالياً للأمريكان و قد يكون يمينياً في نفس الموقع، و بالعكس فقد نجد اشتراكياً أو يمينياً يصطفان معاً في الموقع المناهض لأمريكا و الداعي لسياسة أوربية مستقلة، و بمناسبة الحديث عن نزعة التبعية في فرنسا نشير إلى أن "البي بي سي" قد نشرت وثائق من الأرشيف البريطاني تفيد أن رئيس الوزراء الفرنسي السابق غي موليه زار نظيره البريطاني انتوني ايدن في لندن في خمسينات القرن العشرين بعد خسارة حرب السويس، لمناقشة إمكان قيام اتحاد بين بلديهما تحت حكم التاج البريطاني (الحياة 16/1/2007) و عندما رفض البريطانيون هذا العرض و قدموا له عرضاً بأن تنضم فرنسا إلى دول الكومنولث لم يجد دي مولييه أي غضاضة في هذا العرض، أي أن يصبح عضواً في ناد يضم مستعمرات بريطانيا السابقة. لكن فرنسا ذلك الوقت تمردت على نزعة التبعية هذه فأتت بديغول و سياسته الأوربية المعروفة.
معنى صعود ساركوزي الأمريكي في فرنسا - ثائر دوري
2007-01-18