على مر التاريخ شكلت عدن موطناً خصباً للإبداع الذي احتضنته وصدرته إلى مدناً أخرى فشكلت رقماً بارزاً في صفحات التاريخ التي تتسيد فنونها وإبداعاتها أكثر الأوراق فيه سواءً من الأحداث التي شهدتها أو من ذلك الكم الإبداعي الكبير منذ أكثر من نصف قرن، خاصةً بعد أن برزت ملامح الدولة الحقيقية التي تشكلت قبيل عشرات السنيين، تلك الفنون الإبداعية كالرقص والعزف و... الخ، كسرت حدود محليتها، ووصلت إلى مناطق يمنية وعربية فأتت "النكتة" من مدينة عاشت بسعادة من خلال الكثير من الوسائل أبرزها النكتة التي تميزت بتجددها كفن له أدواته ومميزاته عن بقية الفنون.
ولا تزال عدن المدينة التي انفتحت بمقاهيها المنتشرة في معظم جغرافيتها أمام المبدعين الذين وطاؤها من أغلبية المناطق والقرى اليمنية، وهي المدينة التي اتخذها الروائي اليمني علي المقري موطناً لروايته "بخور عدني" موثقاً لكثير من الأحداث التي شهدتها المدينة التي على الرغم من المآسي التي يفتعلها الكثير ضدها ما تزال باقية وصامدة أمام كل الرياح مصدرة الإبداع والسعادة والأمل.
ومن أبرز أوجه هذه الاستمرارية حضور النكتة العدنية كروتين يومي لدى أغلبية السكان بمختلف الفئات العمرية، بعد أن ارتبطت بتفاصيلها الخاصة كلهجتها السلسة وطريقة أدائها وكأنها فن ولون خاص تتفرد به المدينة عن غيرها من سائر المدن؛ لدرجة أنها تأخذ الزائر لها بحالة دهشة عالية من خلال تلك القهقهات التي لا تنقطع في أماكنها وشوارعها وأزقتها من جميع الفئات العمرية لاسيما شبابها الذين يسيرون بشكل مجموعات يغلب عليهم الضحك طوال الوقت، وكأنها وسيلتهم للعلاج النفسي متخلصين عبرها من همومهم ومن الأخبار السيئة.
ومع مضيّ فترات زمنية متعاقبة، تجددت النكتة، فأصبحت حاملة لكثير من قضايا المجتمع العدني وهمومه وتفاصيل حياته، وأضحت فناً إبداعياً مكتملاً يغيب عن الكثير ممن لم يحالفهم الحظ بعد بزيارتها أو التعرف عليها.
ونتيجةً للتطور المعرفي والتقني يصنف بعض الباحثين والمهتمين "النكتة" بأنها فنٌ لا يختلف عن القصة والقصة القصيرة وغيرها من الفنون الإبداعية بأنها فن إبداعي يتطلب مهارات في الإلقاء وقد يتجاوز في كثير من الأحيان، لسبب متعلق بامتلاك قائلها طريقة احترافية متميزة تمكنه من إلقاء النكتة نفسها إضافةً إلى مهارات تتمثل بالاختصار والتحكم في كلماتها حتى الوصول إلى مرحلة النهاية، فيشدو السامعون بقهقهاتهم المرتفعة التي تصدأ في المقاهي وبعض الأماكن، وهذه ميزة تمتلكها عدن بدرجة كبيرة تفوق مدناً أخرى حتى خصص بعض المهتمين بهذا المجال صفحات ومنصات في مواقع التواصل الاجتماعي لتوثيق النكتة نفسها في سبيل الحفاظ عليها، فأصبحت سهلة لمن يريد الاطلاع عليها والتعرف على خصوصيتها المتفردة وللحفاظ عليها.
فأضحت سهلة للباحثين عنها إلى جانب أهم وهو تحولها من مجرد تسلية إلى وسيلة هامة لنشر ثقافة السلام والتعايش مسجلةً ميزة أخرى تتميز بها مدينة عدن من بين الكثير من الملامح الغزيرة التي تدعو للسلام والتعايش في ضل مآسي الحرب التي تشغل الجميع، وأضحت ضمن تفاصيل الحياة اليومية المقلقة، هذا الفن والوجه الجميل لمدينة تشهد واقعا مأساويا نتيجة اهتزازات سياسية تطور عبر فترات زمنية متعاقبة شكلاً ومضموناً حتى أدى إلى عملية خلق سعادة مجتمعية يتقاسمها أبناؤها، فغلب عليهم البشاشة والسعادة اليومية الذي تفتقر إليها الكثير من المدن المجاورة لها في زمن الحرب وارتفاع الأمراض النفسية يوماً بعد آخر.
النكتة.. وجهٌ مشرقٌ لمدينة عدن
2022-10-21