الرئيس وحكاية قلم لا يؤمم! - سعيد ثابت
الحديث عن رؤساء الدول تكتنفه كثير من الملابسات ويُحدده في الغالب أحد اعتبارين: المدح أو القدح، الأول في حالة ان كان الكاتب مقرباً أو مستفيداً من الرئيس، والثاني تتحكم به مشاعر الاختلاف ومواقف المعارضة، أو تجارب ذاتية نتيجة معاناة قاسية تعرض لها من أدوات واجهزة ذلك الرئيس المذموم.
ولأني آليت على نفسي منذ بداية مشواري مع الكتابة، تجنب أي كتابات ذاتية، مجردة، وظللت حريصاً على الابتعاد من (أفخاخ المديح) لأي مسؤول أو زعيم أو حاكم، حتى وإن كان جديراً بهكذا إطراء أو ثناء!!
أجدني اليوم مضطراً إلى كسر التقليد الكتابي الذي اتبعته، لمبررات أزعم أنها لا تغيب عن بال القارئ، لعل أهمها أن من سأتناوله من زاوية ذاتية محضة هو من أبرز الشخصيات التي حكمت جنوب الوطن، وأثارت -ولا تزال- جدلاً واسعاً في أوساط النخبة السياسية، لا سيما انه استمد مشروعية زعامته من تاريخه العسكري ضد الاحتلال البريطاني، إلى جانب كون تجربته في الحكم امتدت 9 سنوات، كما أنه مارس النضال في العشرينات من عمره، وتولى منصب الرئاسة ولم يتجاوز الثانية والثلاثين من عمره، وهي فترة عمرية لم تصل إلى مرحلة النضج والرشد بمنطق علماء النفس؛ مما يمنحنا فرصة تأمل عميقة لمسار تاريخنا السياسي المعاصر، ووضع هذا الاعتبار كلما أمعنّا في قراءتنا النقدية لتجربة الحكم إبان مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني!
موكب الرئيس
اقترب موعد أذان المغرب.. حث الصبي خطاه نحو دكان أبيه، حاملاً إفطاره، فهو أحد أيام رمضان من عام 1977م.. وصل إلى المحل، ثمة رجال من اصدقاء والده... اعتادوا أن يقعدوا عصر كل يوم في دكانه يتبادلون الاحاديث والذكريات. ما كان يعرف شيئاً عن تاريخهم، أو مكانتهم.
لحظات... حتى انقلب الشارع رأساً على عقب: سيارات عسكرية كثيرة، انتشار لعشرات الجنود المدججين، صفارات الانذار.
انه موكب الرئيس... الحشد الكثيف من الجنود لم يكن يعني للصبي شيئاً، ما كان يدرك أن ثمة تآمرات ودسائس وصراعات وتحالفات داخل جهاز الحكم.
وما لم يكن في حسبانه أيضاً ان يتوقف موكب (الرئيس) أمام دكان والده، بل ويترجل عن سيارته (المرسيدس) السوداء ليتجه نحو والده واصدقاء والده، ليصافحهم. كان بعد دهشة طالت، يظن أن الرئيس يصافح مواطنيه من باب المجاملات والدعايات التي اعتاد الرؤساء عليها لكنه لم يجد المصورين والصحفيين الحكوميين، لم يكن ثمة مرافق سوى العسكر الذين انتشروا حول الشوارع المحيطة بالدكان.
فوجئ أن (الرئيس) يعرف اسم والده جيداً... فهو يصافحه ويناديه بإسمه... كما يعرف أسماء أصدقائه أيضاً!!
أدرك فيما بعد أن لوالده علاقات مع رجال الجبهة القومية التي استولت على السلطة، عرف أن والده كان مشرفاً إدارياً في (كلية عدن) أو (كلية البيومي - سابقا)، وكان رئيساً لنادي (الأحكوم)، ومشرفاً مالياً لنادي (الشويفة)، وعضواً في الاتحاد اليمني. وعرف ان أصدقاء والده الحميمين هما: "الحاج محمد علي المقطري" من أشهر تجار مدينة عدن، وعضو المجلس التشريعي أيام الاستعمار، وصاحب أطيب قلب. أما الثاني فهو الحاج "عبده علي سلام" وهو صاحب مصنع (سبأ) للملابس الجاهزة وهو من المصانع القليلة التي كانت موجودة في المدينة إبان العهد الاشتراكي. وكلا الرجلين في ذمة الله، رحمة الله تتغشاهما.
الرئيس (سالمين) مازح هؤلاء الثلاثة وسألهم عن أحوالهم وعن صحتهم. تابع الصبي المشهد باندهاش وغرابة... فهو لا يكن مشاعر مودة أو موالاة للحاكم لأسباب ذاتية كثيرة.
انتابته مشاعر متضاربة... متناقضة... متصارعة إلى حد الاقتتال.. يشعر أنه أمسى ركام تلك المعركة!!
إن من أسوأ اللحظات عندما تداهمك أحاسيس ومشاعر ملتبسة ومبهمة.. تختفي فيها الحدود الفاصلة بين الثنائيات: الحب والكره، السعادة والشقاء، العزة والمهانة، الامل والاحباط، الموت والحياة!!
أيعقل أن يكون الرئيس الاسطورة "سالمين" ضيفاً هنا؟! «سالمين» ذلك الاسم الذي يثير الكثير من الرعب والقليل من الطمأنينة في نفوس من يعرفهم الصبي من الجيران وأبناء الحي الذي يعيش فيه.
ما لفت انتباهه أن الرجلين القاعدين هناك أبديا ترحيباً فاتراً جداً بالرئيس، كأنهما يعرفانه منذ زمن ليس بالقصير، وهو ما عرفه فيما بعد!! فقد ظلا جامدين لا يتحركان والتقيا معه بمصافحة باردة، وابتسامة لا تحمل أية معاني ترحيب برجل يرأس دولة، وشخصية لها رصيد من العمليات العسكرية النوعية ضد المستعمر البريطاني، وحامل أشهر لقب أطلقته وسائل إعلام الاحتلال عليه (سارق البنوك) فهو قائد عملية (جيب بنك) و(ريتشارد بنك) التي نفذها بهدف الاستيلاء على أموال البنكين لتمويل نشاط المقاومة في الجبهة القومية.
دلف الرئيس إلى ساحة الدكان، وبدأ يطلق سيلاً من الأسئلة لوالد الصبي، عن التجارة وحركة البيع.
وفي لمح البصر، فوجئ بوالده يخلع عنه رداء المجاملات التي ظل يطلقها منذ حل ضيفاً عليه، وسمح للسانه أن يتحرك كيفما أراد ضميره وقناعاته، عبَّر عن الاوضاع الصعبة التي يعيشها الوطن ويعيشها المواطن، وما زال يتذكر عبارة والده: "يارفيق سالمين... رحم الله أيام زمان".
ارتعب الصبي، خاف على مصير والده، عرف ماذا يعني إرعاب (رئيس دولة) لصبي بحياة والده؟! وشعر لأول مرة بفداحة المستقبل عندما يأمر (الرئيس) باعتقال أب يعتمد عليه أبناؤه في كل حياتهم!! ورميه في معسكرات التغييب والموت المنتشرة كما السرطان في جسد الوطن!!
عينا الصبي حائرتان، مذعورتان، كعينيْ فأر أدرك أن الموت محقق بعد أن أطبقت على عنقه أنياب قط جائع!!
تصلبتا على شفتي (الرئيس) منتظراً عبارة: "خذوه واغلقوا المحل، فقد تطاول على عهد فخامتي".
رد الفعل الرئاسي جاء مغايراً: لم يغضب، لم يثر، لم ينبس بكلمة واحدة.. فقط ضحك، بل قهقه من أعماق قلبه. بادل والد الصبي قهقهة الرئيس بابتسامة هي أقرب إلى الوجع، وأدنى إلى السخط!
ثم قال الرئيس بصوت هادئ:" كل شيء سيعود كما كان عليه سابقاً".
قلَّب ناظريه في الأرفف الممتلئة بكراتين فارغة، أردف الرئيس بكلمات ما زالت ترن في أذني الصبي حتى اليوم: "يا استاذ ثابت، الثورة فرضت علينا اتخاذ ما كنا نود اللجوء إليه... لكن للضرورة أحكام، وستعود عدن قريباً أفضل مما كانت، نريد منكم قليلاً من الصبر، وكثيراً من الدعم".
التفت إلى التاجرين الرائعين، وهما نموذجان لمن تم تجريدهما من كل ما يملكان من أموال وعقارات بقوة وقهر السلطة الغاشمة. لكن هذه الأخيرة عجزت عن أن تجردهما من إحساسهما بكرامتهما وعزتهما وثقتهما بإنسانيتهما. قال لهما رئيس مجلس الرئاسة: ياحاج محمد ويا حاج عبده... أعدكما بتصحيح الاخطاء والتجاوزات، فقط دعمكما لنا!! .. لكن صوت الحاج محمد علي المقطري جاء قوياً كالعاصفة هادئاً كما النسيم في آن: "يارفيق سالمين، بعد أن يسلخ الجزار جلد الشاة، لا يستطيع ان يستعيض عنه بجلد مستعار".
عند هذا الحد، انتهت المحاورة، بين حاكم لم يتجاوز عمره الأربعين عاماً، وثلاثة مواطنين، لهم تاريخ في دعم الثورة ضد الاستعمار وكافأتهم بتأميم ممتلكاتهم عدا الفتات!!
محاورة ديمقراطية... رفيعة المستوى، التزمت قيمة الحوار والجدال الحسن: كان الحاكم حاكماً، والمواطنون الثلاثة معارضين، بيد أنها معارضة من طراز رفيع!
كان الصبي يتابع المحاورة باندهاش وإعجاب بصراحة والده وأصدقائه، وعدم اكتراثهم كثيراً (بالنفاق الاجتماعي)، في الوقت الذي حافظوا فيه على المسافة الفاصلة بينهم وبين الحاكم.
آمن الصبي يومها أن الحاكم مهما كان قوياً وعاتياً، ويملك الجند والعتاد، فهو ضعيف وهش، لأنه -باختصار- وضع نفسه في دائرة المسؤولية، فهو مسؤول!! حتى وإن كابر ورفض أن يسأله مواطنوه عما اجترحه طوال فترة حكمه!!
ودَّع (الرئيس) الاصدقاء الثلاثة، ابتسم وهو يصافحهم ثم سألهم: هل من خدمة تطلبونها مني؟! اثنان عبرا له عن شكرهما وعدم استغنائهما عنه، أما والد الصبي فهتف: لدي طلب يا رفيق سالمين.. إشرأب عنق الصبي باتجاه والده منتظراً ما طبيعة الطلب... كان بادر بسرعة قائلاً: أخي معتقل في سجونكم، مرَّ عامان دون محاكمة أو توجيه اتهام، أطلب توجيهاتكم بإحالته إلى القضاء أو الافراج عنه!
تلفت الرئيس يمنياً وشمالاً، ثم خاطب مرافقه الشخصي ذا الشارب الكثيف، صاحب (الكلاشينكوف): أعطني ورقة.. صرخ الاخير برفاقه: اعطونا ورقة... وبسرعة خاطفة مد والد الصبي بورقة وقلمه الأثير من نوع (باركر) ذهبي اللون!
اخذهما الرئيس وكتب توجيهاً إلى من يعنيه الأمر بالسماح لحامله بالدخول إلى مكتب الرئيس اليوم التالي.
مدّ بالورقة وهو يبتسم قائلاً: غداً الحادية عشرة في المكتب وسأستدعي وزير الداخلية للتفاهم حول وضع اخيك أحمد!!
ولما همّ الرئيس بالمغادرة، فوجئ الصبي بوالده وبأدب جم يهمس: معذرة رفيق سالمين، لعلك نسيت أن تعيد قلمي!!
ضحك الرئيس بصوت عال كعادته، معتذراً، وأعاد القلم، لكن والد الصبي أراد توديع رئيس دولته بطريقته الخاصة، فاستدرك: أصلاً يا رفيق قلت في نفسي: "لقد أمموا كل شيء: المساكن والمتاجر والعقارات، لكن لا يجوز أن تؤمموا أيضاً أقلامنا!!"..
ورنت في جنبات الدكان ضحكة قوية أطلقها والد الصبي!! لكن الرئيس لم يضحك هذه المرة، وقابلها بصمت ووجوم هو أقرب إلى العبوس، ثم غادر المكان توجه الصبي إلى والده معاتباً، لكن والده أجابه بعبارة ما زالت محفورة في ذاكرته: "ياكتكت! اسمع واسكت".
لم يدرك الصبي مغزى العبارة إلا بعد أقل من عام، عندما أطاح الرفاق برفيقهم (سالمين) في حادث درامتيكي، ما زالت كثير من معالمه غامضة حتى اليوم.
انتهى (سالمين) على يد الثورة التي أسهم في صناعتها.. الذين حلوا محله انتهوا كنهايته أو أسوأ، وهكذا يأبى الثوار فَهْم ان منطق شرعية الثورة أنها ليست هي ذاتها شرعية الدولة، وأن من يظن أنه سيلتحم بالجماهير قبل أن يعيد إليها اعتبارها -مخافة أن يحيط به المتربصون- إنما يحبس نفسه في زنزانة وهمه التي ستفضي به إلى الانهيار!!
* «النداء» (16) 29 يونيو 2005
الرئيس وحكاية قلم لا يؤمم!
2006-04-10