انكسار السجان..!
* حسين اللسواس
الإهداء إلى المناضل بجاش الأغبري
مشكلة السجان أنه لم يجرب قط، حياة السجن، إذ لو جربها وعاش تفاصيلها، لما سمح لنفسه بالتحول إلى سجان..!
في بلادي، تبدو سالف الأسطر أبلغ ما يمكن أن يقال أو يكتب، كتبرير لمكوث مئات السجناء خلف القضبان.
فالسجان، في معظم القضايا، شخص يعيش في برج عاجي، يغص بالترف والملذات، لم يسبق له أن قضى يوماً في سجن مركزي، ولم يذق مرارة ضحيته القابع وراء أسوار المعتقل.
بقاء السجان في برجه الشاهق، وسط ملذاته، يسلبه ميزة الرحمة والعطف، ليصبح بالتقادم كائناً عديم الإحساس، متجرداً من قيم الإنسانية. وهي حالة يعني الوصول إليها أن السجان ليس مستعداً للصفح عن سجينه مهما كانت الضغوط التي يواجهها.
استبداد تلك الحالة يوصل السجان أحياناً إلى مرحلة يشعر فيها بأنه المظلوم، والسجين هو الظالم..! ليس هذا فحسب، إذ أحياناً يُضطر السجان –المتجرد من قيم الإنسانية- لممارسة ضغوط تكفل إبقاء سجينه في المعتقل رغم انقضاء مدته القانونية أو مرور ثلثي تلك المدة..!
نضوب صفات الرحمة والعطف، عادةً ما يترافق مع طفوق نزعة الانتقام، ليتحول "قهر الآخرين" إلى لذة لدى السجان! لدرجة أنه لو كف عن قهر الآخرين لشعر بنقص ذاتي وفراغ داخلي.
حين يتحول "قهر الآخرين" إلى أفيون غير قابل للاستغناء، وهي حالة تماثل الطغيان والتسلط والديكتاتورية، يكون شعور السجان مختلفاً بشكل كلي، إذ يعتقد أن ما نراه نحن قهراً للآخرين، ما هو إلا دفاع عن النفس من وجهة نظره..!
هنا لن تستغرب حين تسمع أحد السجانين وهو يرد ببجاحة على وسطاء لإطلاق سجين قضى ثلثي مدته، قائلاً: بدري عليه الخروج، خلوه يتأدب شوية..!
شوية هذه، قد تمتد أحياناً إلى 5 أو 10 سنوات..! يا لها من مأساة.
لا يدرك معظم السجانين (الغرماء) حقيقة الشعور الذي يتخلق في وجدان السجين، لاسيما إذا كان مظلوماً، انعدام الإحساس يجعلهم يظنون أنه سينكسر لجبروتهم وسيركع لطغيانهم وسينحني مستجدياً عفوهم.
العكس هو الذي يحدث دائماً، إذ مهما كان المعتقل مهيناً ومثبطاً وبائساً، فإنه أيضاً مدرسة للكبرياء والشموخ، ومعهد للصمود والجسارة. لذا ليس بمستغرب أن تجد سجيناً قضى خلف القضبان عقداً ونصف العقد من الزمن، وهو في حالة صمود أسطورية.
ببساطة: السجن لم يزده رغم قساوة الظروف واستعار المعاناة، إلا عزيمة وصموداً..!
لو كانت النفس البشرية، بطبيعتها، ترضخ للظلم وتستسلم للطغيان، لما شهدت البشرية ثورة الأسطورة جيفارا، ولما تحول نيلسون مانديلا إلى زعيم أفريقي، ولما أضحى جمال عبدالناصر ملهماً للثورات في العالم العربي..!
يحاول السجان في أحايين كثيرة إقناع نفسه بأن الاستمرار في "قهر الأحرار" سيحولهم إلى أداة طيعة، ويلحقهم بصفوف قطعان الأتباع، لذا نراه يسعى جاهداً لإذاقتهم كؤوس المرارة، لعله يرى جباههم في وضعية انحناء.
مع مرور الأيام، وبعد أن يكون القهر قد استنفد غالبية أدواته، يدرك السجان أنّ لا مناص لاستعباد نفوس حرة أبية، حينها فقط يشعر السجان بالانكسار وهو يرى سجينه شامخ الرأس، واثق الخطوة، ثابت الموقف، طافق العزيمة، رغم كل ما كابده من صنوف القهر والظلم والطغيان.
عندها فقط تتحقق المعجزة المستحيلة بانتصار السجين على السجان..!
لا شيء يعادل إحساس السجين بهذه اللحظة. إنها لحظة الحرية الحقيقية، لحظة شعور السجان بالانكسار، وإحساسه بالتقزم والهزيمة..!
al_leswasMail
انكسار السجان.. !
2010-06-14