ملاحظات أولية على "مشروع قانون الصحافة والمطبوعات"
عبدالباري طاهر
في فترة زمنية قياسية دفع "درزية" القوانين القامعة بأكثر من مشروع وتعديل، أو بالأحرى يجري التلويح والترويع بها كعصا غليظة. فمن مشروع قانون حماية الوحدة الوطنية إلى 5 مشاريع قوانين صحافة، إلى تعديلات راعبة في قانون الجرائم والعقوبات.
وهي تعديلات أقرب لشريعة الغاب منها لأي شرع: سماوياً أو وضعياً.
كلما أوغلت السلطة في الفساد والاستبداد، وتزايدت الاحتجاجات السلمية وحتى الدموية، لجأت السلطة إلى الإجراءات الأمنية والقامعة للصحافة، ابتداء بالتشريعات القامعة والمصادرة للحرية، مروراً بالاعتقالات التعسفية، ووصولاً إلى الاختطاف والإخفاء والتعذيب للصحفيين.
يقبع الآن في السجون الصحفيون: حسين زيد بن يحيى، صلاح السقلدي، أحمد الزبيري، معاذ الأشهبي، وحسين اللسواس، بعد أن أفرجت السلطات عن الصحفيين الكبيرين هشام باشراحيل ومحمد المقالح، وقد أفرج مؤخراً عن نجلي هشام باشراحيل: محمد وهاني، والأخير رئيس تحرير صحيفة "الأيام الرياض" الموقوفة شأن "الأيام"، بإجراءات تعسفية وبدون الاحتكام للقضاء.
تعالج الدولة تفشي الإرهاب والفساد التوأمين بالمزيد من قمع الحريات العامة والديمقراطية، وبالأخص حرية الرأي والتعبير.
وترى -وهي على حق- أن الإرهاب لن يسود وأن الفساد لن ينتشر ويحكم إلا بقمع الحريات الصحفية.
تقف الآن عشرات الصحف والصحفيين أمام النيابات الصحفية والمحاكم (الاستثنائية).
ويختطف الصحفيون والكتاب ويعتقلون ويخفون ويعذبون بقانون وبدون قانون وبالقضاء وبدونه، ورغم أنف الدستور والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهود والمواثيق المصادق عليها.
لا تكتفي السلطة بالإجراءات القمعية، فهي أيضاً تحاول وباستمرار سن تشريعات ترتد باليمن إلى عصور الدكتاتورية والشمولية. فهي شديدة الولع والوفاء لماضيها غير المجيد في تكميم الأفواه، وإخراس الأصوات، وتجريم الكلام، مجرد الكلام.
المشروع "الفزاعة" الذي يلوح الحكم به منذ ما بعد حرب 94، سمي قانون الصحافة والمطبوعات بدون رقم لسنة 2005، مما يعني أن الدولة تهدد به الحياة السياسية والصحافية والمجتمعية، وكأنه سلاح دمار شامل، أو كارثة لا ملجأ ولا منجى منها!
يتكون المشروع الجديد -القديم من 128 مادة بزيادة 12 مادة عن القانون رقم 25 لسنة 90، أي قانون دولة الوحدة.
ويمكن هنا تسجيل ملاحظتين: الأولى أن دولة حرب 94 عملت ومنذ نهايات الحرب على تعديل دستور دولة الوحدة أكثر من مرة، ومن ثم عملت أيضاً على إعادة النظر في العديد من التشريعات والقوانين، وللأسوأ طبعاً. لعل أخطرها قانون الأحوال الشخصية، وقانون الجرائم والعقوبات، وبالتالي مشروع قانون الإعلام السمعي والبصري والالكتروني، وقانون الصحافة المشروع المقدم حالياً.
الملاحظة الثانية أن شكوى الصحافة والصحفيين والقوى السياسية المختلفة كانت دائماً ضد محظورات النشر في القانون رقم 25، وسال مداد كثير ومطالبات كاثرة للتخفيف من غلو المواد المحرمة فيه. في حين كانت وزارة الإعلام حريصة الحرص كله على إلغاء الهامش الديمقراطي والمزيد من التضييق على حرية الرأي والتعبير.
حرص المشروع الجديد -القديم على الإبقاء على جوهر المواد القامعة في القانون رقم 25 لسنة 90، متوخياً تدارك ما فات في المواد السالبة للحرية والمقيدة، فرغم أن الوزارة قد سنت تشريعاً جديداً حول الإعلام السمعي والبصري والالكتروني في مشروع مستقل، إلا أنها حرصت على وضع القيود وشموله بالإجراءات القامعة وما أكثرها!
لقد أبقى المشروع على العيوب الرئيسية في القانون المقدم، بل أكد عليها بإلحاح: الترخيص بدل التسجيل. ومعروف أن التسجيل للحزب أو الصحيفة أحد أهم شواهد الديمقراطية، ولكن وزارة الإعلام الحريصة على التضييق على الهامش الديمقراطي، قد توسعت في منح الترخيص ليصل إلى المراسل والموزع وصاحب الكشك وبياع الصحف، وربما طمحت إلى غل يد القارئ ومنعه من الاستماع أو المشاهدة.
حرص المشروع على منح الإعلام صلاحيات ليست لها لا يقرها دستور أو قانون، مثل الشكوى لوزير الإعلام في حال رفض الصحفي نشر الرد.
اللافت أنه رغم الانتقاد الشديد لجعل رئيس التحرير فاعلاً أصلياً إلا أن المشروع قد حرص على كل مساوئ وعيوب القانون القديم، كما أبقى على المواد المجرمة، متوسعاً ومضيفاً ومفصلاً أكثر!
مسؤولية رئيس التحرير واعتباره الفاعل الأصلي تتنافى مع المسؤولية في الديانات السماوية. ففي القرآن الكريم "ولا تزر وازرة وزر أخرى" الآية. أما في النظم الوضعية كما في الديانات السماوية، فإن المسؤولية فردية، وقد تصدى محامون مرموقون منهم: حسن مجلي، ونبيل المحمدي، وعلاو، والبغدادي، والكثير من الصحفيين والسياسيين، ولكن لا حياة لمن تنادي.
أبقى المشروع أيضاً الباب مفتوحاً على القوانين العقابية الأخرى والمواد المجرمة فيها لحرية الرأي والتعبير وحق الحصول على المعلومة، وهو ما يعني أن القانون مال إلى التشدد أكثر، وأنه لم يسن إلا لهذه الغاية.
كما أنه حريص على إعطاء القاضي الحق في توقيع عقوبة تكميلية، وتشدد أكثر فأكثر في التنصيص على القوانين النافذة... الأخرى.
في قراءة سريعة رصدت الألفاظ المجرمة والمحرمة والمانعة، فوصلت إلى ما يقرب من 105 ما بين يحظر، يحرم، يمنع، يجب... وأمثالها.
أما المقارنة بين "محظورات النشر" في القانون القديم والمشروع الجديد، فقد بلغت الدقة المنتهى في التقييد بالمحظورات والأحكام الجزائية. فالمواد هي المواد وإن اختلف الترقيم، والإضافة محدودة وإن للأسوأ غالباً، فالمادة 103 في القديم يضيف إليها الجديد "والالكترونية".
كما يضيف في الفقرة 3: من إثارة النعرات "المناطقية"، وكأن هذه "النعرة" لم توجد إلا بعد ظهور الحراك الجنوبي. وفي الفقرة 8 شطب الجديد من المادة "تعمد نشر بيانات أو أنباء أو معلومات أو أخبار غير صحيحة [بهدف التأثير على الوضع الاقتصادي، وإحداث تشويش أو بلبلة في البلاد]" فشطب الجديد "بهدف التأثير..." الخ، وهو تعديل للأسوأ لأنه هنا يحرص على العقوبة سواء تحقق الضرر ووقع أم لا، ويتوخى العقوبة بقطع النظر عن قصد الإساءة من عدمه، فهو لا يترك للمتهم أو القاضي حق التأول للأمر.
ربما التعديل المعقول والمنطقي هو استبدال "يضر" في الجديد بـ"يمس" في القديم في الفقرة 2.
وإضافة "التكفير" في الفقرة 3 إضافة طيبة لو أضيف إليها التخوين السياسي.
وواضح أن التكفير يعني الإصلاح أو على الأقل تياراً في الإصلاح، وإذا كان التكفيريون ماركة مسجلة للتيار السلفي المتعصب في الإصلاح، فإن التخوين السياسي ماركة مسجلة للمؤتمر الشعبي العام. وللحقيقة فإن السلطة تجيد وتوظف التكفير والتخوين، وتستخدمهما ضداً على الخصم.
في الأحكام الجزائية في الجديد تنص المادة 116 الفقرة 15 على مضاعفة الغرامة من 10 آلاف ريال إلى 100 ألف، لكأن المشرع راعى ضعف القوة الشرائية للريال أو الإحساس العميق بالأزمة الاقتصادية وحاجة الدولة لتنمية الموارد والشعور بالعجز في الموازنة العامة.
أما الفقرة ب فتلغي بكرم حاتمي سجن الصحفي. وإلغاء سجن الصحفي في اليمن نكتة مبكية. ترى لو خير الصحفي الفقير حد الإملاق بين الغرامة 100 ألف ريال، والسجن، ألا يقول "السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه"؟!
ندرك أن السجن باقٍ، والغرامة ستتضاعف للأسباب المشار إليها.
الأفجع أن يعجز الصحفي المغرم عن دفع الغرامة فيُسجن لعدم تسديد الغرامة المالية، وفي هذه الحالة يكون سجنه بسبب عدم الوفاء بالغرامة المالية، وليس للمخالفة الصحفية غير الجسيمة.
ورع المشرع الجديد يتجلى في الإضافة في المادة 119، فبعد أن يعطي لوزير الإعلام أو الثقافة أو من ينوب عنهما حق الحجز الإداري على المطبوع أو الصحيفة الخ، يشترط أخذ الإذن من النيابة العامة، وهو ما لم يشترطه القانون القديم.
مات بهاء الدين قراقوش أحد أهم وزراء صلاح الدين الأيوبي، ومات ابن مماتي أحد أهم الكتاب الساخرين في عصر صلاح الدين، وبقي حياً كتاب "الفاشوش في أحكام قراقوش".
أعرف أن السيد وزير الإعلام حسن أحمد اللوزي، ليس هو المشرع، ولكن حماسه للتشريعات القامعة للحرية والمعادية للصحافة والصحفيين، ابتداء من القانون رقم 42 لعام 1982، وهو قانون حظر بامتياز، وانتهاء بمشروع القانون السمعي والبصري ومشروع قانون الصحافة، كلها تؤكد الخصومة المريرة والعداء المستحكم للرأي الآخر.
جاء اللوزي بقرار وسيذهب اليوم أو غداً بقرار، ولكن ما سيبقى إصراره على وأد حرية الرأي والتعبير والتشريعات المصنوعة في عهوده.
حقاً لا يزال الفاشوش يصنع الابتسامة أو يغرسها في نفوس قرائه، ولا يزال ابن مماتي رمزاً للتبكيت والتنكيت، ولكن مشاريع التنكيل بالحريات الصحفية ووأد حرية الرأي والتعبير تمثل ومنذ ترويع الناس بها كوميديا سوداء، وقتلاً للفرحة في نفوس وعقول وضمائر الشعب التواق للحرية والعدالة والحداثة.
ملاحظات أولية على "مشروع قانون الصحافة والمطبوعات"
2010-05-18