حين تعرضت اليمن لما يشبه الزلزال المدوي من بدء ما سميت ثورات الربيع العربي، وما تبعها أو سبقها على مستويات أخرى مما سميت الثورات البرتقالية، لم تكن الخدوش والجروح الغائرة منصبة على الإطار السياسي للدولة، الضعيف أصلًا، بل استتبعه ما هو أخطر، وهو ضرب مكامن قوة عناصر ومكونات الاقتصاد الوطني، وعوامل استقراره، وغالبًا ما يكون النظام المالي والمصرفي هو الأكثر تأثرًا وتشوهًا، فمع أي اضطرابات وقلاقل داخلية تبدأ عناصر الثبات والاستقرار في الانتكاس، وتبدأ دورة الحياة في كيان وجسم ومكونات الاقتصاد الوطني في الاهتزاز، وتبدأ حركتا الإنتاج عامة مقابلها حركة السوق والتسويق تشهد المزيد من التضارب والاضطراب، وكلما اهتزت مكونات رفد موارد الدولة بالاهتزاز والاضطراب، تصاحبها مظاهر انحسار موارد الدولة المالية، ومع ثبات وظائف الدولة العامة وتزايد نفقاتها، بخاصة ونحن بلد مستورد أساسًا تتأثر موازينه خللًا كلما تصاعدت أسعار ما يتم استيراده، وتأثير ذلك على مستوى وحركة المجتمع المعيشية، وتزداد تضعضعًا مع تفاقم نقص موارد الدولة المالية إما لسوء إدارة الموارد وتحصيلها مع انعكاس تغيرات الأسعار الدولية على مستوى الأسعار واضطرابها عبر تزايد التضخم، أي تدني قيمة الريال، تبعًا لذلك تبدأ مفاعيل ما يعرف بظاهرة الخلل الهيكلي، والمعبر عنه صراحة بتنامي العجز في كافة موازين الاقتصاد، وبخاصة جانب ميزانية الدولة التشغيلية المرتبطة بتسير حياة المجتمع اليومية، وحين تكون قدرة البنك المركزي عبر سياسته النقدية والدولة ممثلة بالحكومة عاجزة أمام ضرورات ضبط مصروفاتها عبر سياستها المالية، لتبدو حالة انكشاف ستزداد مما يبدو معه عجز الدولة عن تأدية وظائفها الأساسية، وفي وضع كالوضع المتضارب بين سياسات مواجهة لا محالة فإن وضعًا كهذا سيدفع باتجاه ما يلي من مؤشرات سلبية تعمق من أزمة الاقتصاد الوطني برمته، مما يضعه أمام صورة سالبة أمام شركائه، ناهيك عن تزايد فقدان الثقة داخليًا من قبل الأفراد مستهلكين كانوا أو مستثمرين، وحالة كهذه مع التعليمات المتضادة للمصارف هنا وهناك ستؤدي لا محالة لتعقد سبل سير التحويلات الشخصية، وتلك التي تخص قيم المبادلات التجارية، مما يقتضي إيجاد سبل ومخارج تحول دون عواقب الوصول لهذه الدرجة من تضارب حالة انتظام تسوية التحويلات ذات الطابع العائلي أو التحويلات التي تغطي قيم سلع وطنية يتم تبادلها... هذا ناهيك عما ستؤول إليه معاملات البلد التي تتم مع الخارج وتعامل عبر موانئ هنا أو هناك... الأمر يحتاج إلى تمعن ومراعاة ضرورة ألا تزيد تضاربات المصرفيين من خسائر يتحملها في الأخير المواطن والاقتصاد الوطني عجزًا، وهنا يجب الإشارة إلى أن ظاهرتي التضخم والعجز في الموازين، وهو ما عاشته بلادنا طيلة فترة الحرب، قد زاد من حدتها أساسًا ما جرى من تبدلات في الواقع السياسي أنتج انقلابًا وحربًا، وتبعه انقسام للبنك المركزي أحدهما شرعي نقل إلى عدن، والثاني باقٍ في صنعاء يعمل خارج نسق البنك المركزي الأصل.
نحن أمام نظام سياسي واقتصادي منقسم يؤجج مفاعيل العجز على المستويات كافة، ويضرب ويضر مصالح غالبية المواطنين، وإذا استمر الوضع وازداد عسرًا، وعجز أمام نظام اقتصادي متشظٍّ ونظام مصرفي منقسم يمارسان على الأرض مهام متضادة متناقضة، ولا يعملان البتة لضمان عودة المياه لمجاريها، من يبادر أولًا الشرعية قد لوحت وتركت الباب مواربًا، وسلطات صنعاء ليس الوقت وقت مزايدات، الأكثر أهمية مصالح الشعب والبلد، وتلك مسؤولية الطرفين، ومسؤولية كل القوى السياسية أن تشمر عن ساعديها كي تلعب دورها المأمول.
هذه الخلفية التي صاغتها سنوات الانقلاب والحرب وما اتخذ من إجراء مؤخرًا من قبل البنك المركزي عدن قد جاء جدًا متأخرًا، وهو إجراء سيفاقم بالتأكيد من مظاهر أزمة البلاد بكاملها، كيف ذلك؟
إجراءات مركزى عدن وإجراءات مركزي صنعاء حتى مع عدم شرعيتها إنما تصبان في خانة مفهوم... لكل فعل رد فعل مساوٍ في القوة مضاد في الاتجاه.
إن حالة المواجهة بين بنكي عدن وصنعاء بعيدًا عن البحث عن مشاريع تغادر خانة الحرب، وتضع تحت المجهر والمشرط الاقتصادي السليم خارطة طريق لحل سياسي يضع نهاية لما نحن فيه... عدا ذلك
لن يقود إلا إلى:
أولًا: مزيد من المواجهات التي قد تلعب دورًا مدمرًا لما تبقى من روابط اقتصادية تربط بين عناصر الاقتصاد الوطني الذي بدأ في التفكك، وينبغي عدم السماح لمزيد من عوامل التفتيت والوهن للتغلغل فيه.
ثانيًا: سيصاحب مرحلة الاضطرابات تأثيرات تؤدي إلى تقلص النشاط الاقتصادي التبادلي، وأثر ذلك على الموارد، وتضرر مصالح الفئات الدنيا مواطنين وتجارًا، جراء ما سيصاحب هذه الإجراءات من تعقيدات في عمليات التحويل، وكذا ما سينجم من مضاربات للحصول على العملات القابلة للتحويل، مما سيؤدي لمزيد من تهالك قيمة الريال، بل انكساره طالما ظلت اللعبة قائمة بهذا الشكل.
ثالثًا: إن ظاهرة التضارب بين مصرفي عدن وصنعاء، وفي وضع تشوبه عناصر القلق وعدم الاستقرار، تغيب معها عناصر الثقة بعنصري المال والاقتصاد، ومع تنامي ظاهرتي عجز الموازنة وتصاعد التضخم، أي مزيد من انهيار قيمة الريال، تأتي الإجراءات المتبادلة لتصب مزيدًا من النار على وضع غائم مضطرب غير مستقر، ليزيده إرباكًا، بخاصة إن أصبحت أمور التحويلات شاقة أو ممنوعة بالكامل إلا وفق آلية لن تتحقق بسرعة البرق.
المواطن هنا وهناك سيدفع الثمن مضاعفًا معبرًا عنه بـ:
أولًا: ارتفاع ظاهرة المضاربات، بخاصة في مناطق سيطرة أنصار الله، للتخلص من أية كميات من عملة ما قبل 2016، والخشية أن تفقد قيمتها بالكامل، ولن يعوضهم أحد.
ثانيًا: وضع بنك صنعاء لم يكن قادرًا أو لم يكن مرنًا بما فيه الكفاية لتعويض أصحاب الودائع لدى البنوك التي خاطبها بنك عدن، فكيف له أن يعوض من سيأتيه بمبالغ من مناطق الشرعية... الأمور ليست ألعابًا بحرية، إنها مسؤولية تاريخية تتعلق بالحفاظ على مصالح وطن ومواطنين تتعرض موجوداتهم للهلاك والتآكل والضياع.
كل ذلك لا شك سينعكس سلبًا على المواطن واقتصاده المجزأ، حيث:
أولًا: تزايد العجز في موارد البلد السيادية جراء عدم الاستقرار، سيفاقم العجز، ويزيد من ارتفاع التضخم، بمعنى انهيار متتالٍ لسعر الريال، ويقابله ارتفاع مستمر للأسعار.
ثانيًا: ذلك سينعكس سلبًا على إمكان تعافي النشاط الاقتصادي برمته، وأثر ذلك على التشغيل وتزايد ظاهرة العجز.
ثالثًا: تظل الخشية قائمة من احتمال تصاعد المواجهة التي يخشى معها انحسار، بل قل مزيد من تمزيق عناصر الاقتصاد الواحد، وبداية تشظيه، وهو ما لا نريده ولا ننتظره، ونلفت الأنظار لضرورة تلافيه من قبل الجهات التي تتقاذف القرارات المتضادة، ونأمل من سلطات صنعاء إيلاء الهم الوطني همها الأساس، ومن بنك عدن المركزي المرونة وتذليل أية عقبات يمكن عبرها الخروج من هذا المأزق الخطير، بالتعاون مع كل الأطراف التي لها ضلع وباع في تطور هذه المشكلة، وكانت طيلة مراحل الحرب تدرك أن البلاد لا محالة ستصل لهذا الوضع الأكثر صعوبة وتعقيدًا من أية مرحلة للحرب مرت، والخوف أن كل المؤشرات تشير إلى احتمالات المواجهة، وهنا ننبه أن الحرب والهدن المتقطعة بحاجة لمراجعة، ويبدو أن إعصارًا ما سينجم عن المواجهة بين البنك المركزي عدن الممسك بعصا الشرعية، وبنك صنعاء المحاول كسرها.
الحل ليس هنا.
قد جربنا كل الخيارات، أفضلها على الإطلاق كان خيار الحوار الوطني، وهو السبيل، ولا بديل سواه.