لم تغلق الباحثة اليمنية أروى أحمد حسابها مع موطن ميلادها عندما اختارت الإقامة في برلين منذ سنوات، بقدر ما انشغلت واشتغلت على البحث في الجذور، وعلى سؤال خلفية ما يجري ويغتلي ويمور في تلك البلاد، وكانت سباقة في تأويل غبار الزيدية الحربية، وفي تسليط الضوء الكاشف على المحتوى العميق، البعيد والمحرك للجائحة الحوثية قبل أن تعصف بالبلاد وتعيث فيها فسادًا وتدميرًا وتمزيقًا وخرابًا.
لقد حفرت عميقًا في تجاويف إرث أسلاف الحوثي، بذهابها إلى أصل البلاء.
وللموضوع صلة بحكايتها أو قصتها عندما وصلت إلى برلين لتتخصص في دراسة تاريخ اليمن الاقتصادي، وقررت أن تدرس الاقتصاد اليمني في عهد الأئمة من عام ١٩١٨ إلى ١٩٦٢.
تحكي أروى أن البروفيسورة المشرفة عليها وافقت على الموضوع، وطالبتها بالعودة إلى اليمن، وجمع الوثائق، وأنها عملت بالنصيحة، وعادت إلى اليمن ثلاث مرات: "فتحت السجلات، وتصفحت وثائق لا تعد ولا تحصى، وصورت بعضها، ونقلت البعض الآخر باليد، شهور طويلة وعمل مضنٍ للغاية.
المهم، بعد دراسة طويلة، اكتشفت شيئًا خطيرًا جدًا.. لا يوجد اقتصاد. لا توجد تنمية، لا توجد أي مشاريع، ولا يوجد هيكل اقتصادي وتنموي أو مالي، ولا توجد استثمارات، ولا توجد تجارة أو زراعة أو صناعة بالمعنى الحديث".
وتواصل: "المهم، أخبرت البروفيسورة بما حدث، واقترحت عليّ تغيير اسم الرسالة إلى النظم المالية للأئمه في اليمن من ١٩١٨ إلى ١٩٦٢".
بعد الموافقة على تغيير الموضوع قررت أروى أن تذهب إلى أبعد نقطة في تاريخ الأئمة، من وصول جدهم القاسم الرسي.
... "لقد كانت المفاجأة صادمة للغاية، فاليمن أصبحت ملكًا لهم أرضًا وإنسانًا. يفلح اليمني في الأرض فيأخذون الغلة، يربي الماشية فيأكلون اللحم ويأخذون البيض ويجمعون الحيوانات لأنفسهم. لاحقوا الفلاح على نفر القمح وعدد الدجاج وسمن البقر.
كان أول طلب للقاسم الرسي من أهل صنعاء، في سنة ٢٨٥ هجرية، تسليم الزكاة، وبعد أن رفضوا دعا عليهم بالفقر حتى يبيعوا زوجاتهم بالدرهم والدينار... عشرات الأئمة الظلَمة والقساة العتاة واللصوص أفقروا اليمنيين أكثر من ١٢٠٠ سنة، وأدخلوهم في حروب الخروج على الحاكم الظالم، وكل فريق منهم يخرج على الآخر، ويقاتل باليمنيين أقرانه الهاشميين طالبي السلطة.
... لم يتركوا لليمنيين حياة ولا َمعاشًا، حتى هاجر اليمنيون إلى أصقاع الأرض هروبًا من عسفهم الذي أسسوا له فقهيًا، والذي يجوز لهم أخذ المال بأي وجه من الوجوه، ولو بالقتل، وليس أدل على ذلك من فتوى الإمام الأهم في الدولة القاسمية، المتوكل على الله إسماعيل، الذي أصدر فتوى "إرشاد السامع في جواز أخذ اموال الشوافع"، وبرر فيها بأنهم كفار تأويل، وعندما عارضه القاضي حسن الجلال بأن ذلك لا يجوز، وأنه يستوجب عقاب الله، رد عليه الإمام بأن الله لن يعاقبني إلا على ما تركت لهم".
في الجملة الأخيرة "الفتوى" تتكثف الصفاقة، ويتجلى الصلف العنصري النازي في أقبح صوره، وعلى تلك الجملة يرتكز الحوثي اليوم في حصاره لمدينة تعز، وتجويعه العرقي لملايين اليمنيين بإقرار وتصريح من ديفيد بيزلي، المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي: "الحوثيون يسرقون الطعام من أفواه الجياع في اليمن".
إن هذا التصريح يكشف عن واقع الاستئثار العرقي بالمعونات الإغاثية التي تصل إلى اليمن، حيث يذهب جلها إلى العائلة الحوثية الحاكمة، ثم إلى الأسر الهاشمية المرتبطة بالعائلة المالكة، ولا يصل إلى اليمنيين إلا الفتات المغمس بالمذلة.
في الجزء السابق من "النازية المتحورة"، وبعد أن تطرقت لصعود هتلر والحركة النازية، وعدت بالتطرق إلى النازية في نسختها اليمنية "الحوثرانية" في هذا الجزء، وقد لفتني صديق عزيز برسالة خاصة إلى أن "ربط الحركة الحوثية بالنازية، يبدو لي لا يختلف عن الإذلال الذي ذاقه الألمان جميعًا غداة هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى.
في النازية أسماء كبيرة وملهَمة، شعراء وأدباء وموسيقيون... أما الرثاثة الحوثية فلا أجد فيها سوى الشر الطليق، في أكثر صوره رثاثة وجهلًا".
لقد أصاب صديقي، وله الشكر، لكنه تخاطر مع هواجسي في هذا المنحى من حيث لا يدري.
فالحاصل أن للنازية تحورات صارخة، ومشتركات مفصلية هنا وهناك، فهي تتخصب في أجواء الأزمات الطاحنة، وتقوم على الزعم بالتفوق العرقي (النسب) والاصطفاء والاختيار الإلهي، والنكث بالعهود والمواثيق، وحينما تعلن جنوحها إلى السلام تعد لجولة حرب جديدة، ولا تقبل بأية شراكة أو تحالف إلا على مضض، ولكسب الوقت، وتحين الفرصة لتصفية الشريك في أقرب َمنعطف، وتعتمد على المليشيا و"الصرخة" والحشود والهتافات والشعارات والهذيان الإمبراطوري.
ولئن كان على المرشح للعمل في الأجهزة الحساسة أو الوظائف القيادية في حقبة النازية الألمانية، أن يثبت نسبه إلى العرق الآري رجوعًا إلى القرن الثامن عشر، فقد كان على الهاشمي أن يثبت نسبه إلى شجرة عائلة "آل البيت"، بالرجوع إلى النصف الثاني من الألفية الأولى.
وتتميز الحوثية بأنها برية وجهازية تهندست على الحرب والنهب، بدائية وجسدية تتوزع إلى جماعات غاب وغياب، منتجة للتوحش، منتشية بتحويل البلاد إلى خرائب وأنقاض، وقد تحول قادتها إلى أمراء وأغنياء حرب بسرعة البرق، يكدسون ملايين الريالات والدولارات بأكياس القمامة السوداء في البدرومات.
أصبح الدين في ظلهم أسيرًا لبدائية جسدية، وبموجب ذلك غدت الحوثية منظومة حاكمة للأجساد في مجتمع بري، وارتكزت على جَماعات عصابية إجرامية ترفع راية الإسلام الحربي، وحرب الجميع على الجميع وعلى المجتمع بالذات، وإزاء ذلك صار الحديث عن بناء أرضية مشتركة أو عن السلام، ضربًا من البهتان في ظل طغيان فاشي، استيطاني، ومنظومة إرهابية شمولية، تجسسية، تتمتع بحاسة شم كلاب الصيد في ملاحقتها للناس وللنساء بوجه خاص: ماذا يلبسون وكيف... ماذا يأكلون ويشربون، واختلاطهم في الفضاء العام... عدوانية شديدة في كافة المجالات، وكلما أكلت ازدادت جوعًا، وتطرفت أكثر في منحى قسر الناس على التحرك في خط دائري، حيث يكون الماضي هو الساحة الرئيسية لذلك التحرك، ولكافة المعارك التي تنتهي إلى الإعلاء من شأن سيادة قانون البقاء للأسوأ، وإلى ترسيخ حالة المليشيا والحرب الدائمة.
وفي حين كانت صورة نظام الأئمة الأسلاف بشعة، فليس ثمة ما هو أبشع من ورثتها الأجلاف أو من الإمامة في صورتها المحدثة "الحوثية" المحقونة بالمصل الإثني عشري، وحروبها التي أفضت إلى تكسير المجتمع، وفاقمت التذرر والتناثر، وتكشفت عن منظومة بدائية افتراسية أجهزة على الأنوية المتَمدنة في البلاد، ومسخت القوى والجماعات المطالبة بالتغيير إلى قوى ذيلية وتزويرية لها، وأطلقت العنان لفلتان قطعانها البرية الموغلة في الهمجية.
وأصبحت كل وجهة نظر مغايرة خيانة، وكل من يحيد عن صراط "المسيرة القرآنية" كافرًا ومارقًا، وتمكنت الحوثية من بناء "نظام هو الحقارة وقد أصبحت حكَمًا"، حسب كارل ماركس.
في هذه الحقبة السوداء اكتظت السجون بآلاف النساء والرجال والأطفال، وتجشأت مئات الجثث، وارتفعت أسعار القبور، وتكاثرت المقابر و"الشهداء" على نحو َمهول، فهي حقبة لا يتخصب فيها أي شيء غير اللامعقول.
القضية "المغسلة"
"في مقابل مزاعم دعم الفلسطينيين، والدفاع عنهم، والمطالبة برفع الحصار عن غزة، تقدم جماعة أنصار الله الحوثية نموذجًا مناقضًا وبشعًا في الداخل، بفرض الجبايات التي تصل حد "الجزية" وانتهاك الحريات الخاصة والعامة، وقطع الطرقات.
... في اللغة العربية مفردة تليق بما تفعله "الجماعة"، وهي "النفاق"، فكيف يستوي الحديث الصارخ ومطالبتها برفع الحصار عن غزة مع َممارستها في خنق مدينة يَمنية".
السفير مصطفى النعمان
... علاوة على كون الصديق مصطفى النعمان كاتبًا نقديًا من طراز رفيع، فهو فاعل سياسي ودبلوماسي مؤثر وعابر للحدود ويستحق التحية على هذه الملاحظة الكاشفة للطلاق بين الأقوال والأفعال، وتلك سمة ملازمة لأية جماعة نازية بالمناسبة.
إن ما يحدث من استثمار في القضية الفلسطينية العادلة، واستخدامها كـ"مغسلة" لتبييض صور القتلة، يلحق بالغ الضرر بهذه القضية، وقد استثمرت "الجماعة" في القضية، وقامت بتجنيد الآلاف من الأطفال، لتزجهم في معارك داخلية، تساقطوا فيها بالآلاف وهم يعتقدون أنهم يحاربون من أجل تحرير غزة.
لقد انتشرت مؤخرًا عشرات الصور والفيديوهات لطوابير طويلة من الأطفال في المعسكرات الصيفية وفي الجوامع، بما فيها الجامع الكبير بصنعاء، وهم يؤدون قسم الولاء للسيد عبدالملك، ويرفعون أيديهم والشعار على غرار التحية الفاشية، واتضح جليًا أن محنة غزة شكلت فرصة ذهبية للحوثي، ليضاعف من حجم النهب، ومن حجم التعبئة والإعداد لجولة جديدة من الحرب على اليمنيين.
ومعلوم أن التدخل الخارجي، أكان العربي وبالأحرى السعودي -الإماراتي، قد أفضى في وقت سابق إلى تمزيق البلاد إلى كانتونات تتناهشها المليشيات، وإلى تمكين الحوثي وتقوية عضلاته ليصبح خطرًا إقليميًا، أو التدخل الأمريكي -البريطاني الحالي الذي طالما تعطش له الحوثي، ليستعرض نفسه كـ"قوة عظمى" قادرة على تهديد العالم.
من الوارد أن تبعات وارتدادات هذا التضخم النرجسي ستكون وبيلة وثقيلة على اليمنيين بإسهام فاعل من التدخلات الخارجية التي ساعدت على تحويل جماعة منبوذة إلى وحش كاسر لا يشبع من سفك دماء اليمنيين والتهامهم.
وليس بخافٍ أن هذا الاستثمار البشع لـ"القضية" قد تحرك بموجب أوامر المستثمر الأكبر ممثلًا بملالي طهران، كما لا يخفى على أحد أن مشكلة إيران مع الغرب وأمريكا ليست حول قيم العدالة والمساواة وعمومية القيم والحقوق الكونية، بل حول المشاركة في السيطرة والامتياز والاعتراف لها بمجالات نفوذ غير منازعة.. ترسيخ مليشيا دائمة في صنعاء وغيرها من العواصم المختطفة.