للقدر قسوته غير المتوقعة. بالأمس قرأت للمساح في "النداء"، ولم أتصور أن مقاله سيسطر آخر علاقة له بالقلم وبالبلد الذي أحبه وعشقه، وبقرائه الكثر. تزاملت مع الفقيد في مدرسة الثورة الثانوية بتعز، التي بنتها مصر، كشقيقتيها في صنعاء والحديدة، وضمن دفعة الـ77 التي حصلت عام 1966 على أول شهادة ثانوية عامة في تاريخ اليمن، قُبلت كلها في الجامعات المصرية، وبمنح مالية من الجمهورية العربية المتحدة، واستثني منها ستة زملاء لأسباب سياسية، منهم د. عبده سعيد طشان، التوأم الروحي للمساح.
عشت مع المساح، ومع محمد علي حميد الشامي، لأربع سنوات، في شقة واحدة بالمنيل، وعاش معنا، ولفترة أقل، أحمد عبدالله عبدالإله وحسين محمد عبدالله ومحمد عبدالجليل الدبعي.
المساح "الفوضوي" تجاوزًا، والاستثنائي واقعًا، كان الأكثر مودة واحترامًا للآخر، وكالنسمة. كان أحدنا يشكو أن أم سيد لا تضع في طبقه طعامًا يساوي ما تضعه في أطباقنا، ولم أسمع، كمسؤول عن ميزانية الشقة، منه، أية شكوى أو تذمر.
كان المساح معتزًا بنفسه وبيمنيته، وعندما استفزه زميله الخليجي في كلية الآداب، بطحه أرضًا، بتعبيره حكولت لعاره، وقبل هذا في عدن، وفي حالة يأس من استجابة والده لتوسله بأن يتركه يكمل اللعب في مباراة، حكول لوالده. كان والده يخاف أن يسرقه الملعب من المدرسة.
لم يؤذِ المساح أحدًا على الإطلاق، وكان أكثرنا إنفاقًا على الكتب والصحف والمجلات، وينفق عليها كثري. كان له وللشامي فضل تعرفنا على صديقين مصريين رائعين هما بدر سيد سليمان الرفاعي، والمرحوم رجائي.
كان المساح يهتبل السكينة المؤقتة في رمضان، ويغادر الشقة بعيد الإفطار، للتمتع بهدوء شوارع المنيل أو كوبري الجامعة. وفي العمل الحزبي كان الأقل التزامًا، والأقل تشبثًا بالنظرية، ولم يكن مزايدًا كذلك الذي رجوناه، ليس لعدم محبة الجنوب، ألا يذهب للعمل فيه، لأن صنعاء أكثر احتياجًا له من الجنوب، وكان رده أنه ذاهب إليها لـ"يطلع الثورة من الجنوب إلى الشمال".
ترك المساح عدن التي ذهب إليها بعد تخرجه، وله فيها أهل وأصدقاء وذكريات طفولة وشباب، وحيث النعيم النسبي لأي خريج، وأتى إلى صنعاء رغم كل المحاذير الأمنية فيها، وعلمه بقمع المخالفين، وربما سجنهم.
وفي نادي الطلبة اليمنيين بالجيزة؛ المكان الأهم لالتقاء الطلبة، الذي اشتراه ولي العهد محمد البدر في الخمسينيات، وكان جهاز تلفزيونه الأبيض والأسود يديره المصري عم هارون الحارس والمقهوي، يسمى تلفزيون البدر، حتى بعد يأس البدر، الإمام، من إلحاق هزيمة بالثورة، وفشل حصار صنعاء في فبراير 1968.
عندما زارنا أثناء الحصار الراحلان عمر الجاوي ويحيى الشامي، وحاضرانا في النادي للطمأنة بأن الثورة ستنتصر، كان المساح من الذين أبدوا رغبتهم بالعودة إلى صنعاء لحمل السلاح للدفاع عن الجمهورية.
كان المساح الأكثر حضورًا وحيوية في النادي. وفي اعتصام الطلبة في السفارة عام 1970، احتجاجًا على المصالحة الوطنية، كان مع محمد علي الشامي مسؤولين عن التواصل مع الصحافة.
وطيلة دراسته لأربع سنوات لم يتشاكل المساح مع أحد، وتخرج من الجامعة في الموعد المحدد عام 1970، والتحقق بوزارة الخارجية بعد اجتياز الامتحانين التحريري والشفهي، وامتحان اللياقة.
كان المساح في الخارجية واحدًا من الذين حركوا مياهها الراكدة، ولكن لم يطل به البقاء فيها لعيب في روتينها، وليس تقصيرًا منه، وفي مقالي عنه في "النداء" قبل شهور قليلة، توضيح للأسباب ولموقفه الصادق مع نفسه، وقد ترك الخارجية بمحض إرادته، وذهب إلى موقعه الطبيعي في الإعلام.
كان المساح قنوعًا، ولم يكن طموحًا للمال، ولم يمتلك بيتًا في صنعاء، وتصرف بأرضية منحتها وزارة الإعلام تجنبًا لمتاعب البناء بالاقتراض والمتابعة وهمومها.
كانت علاقته بقريته حميمية، ولكيلا يقطع صلته بها أبقى عائلته فيها، وكانت زياراته لها لا تنقطع، وعاش سنواته الأخيرة فيها.
إن ما كتب عن المساح في ساعات قليلة مصداقًا لحب الناس واحترامهم له، ولما كان يكتبه في "لحظة يا زمن".
عاش المساح سنواته الأخيرة كغالبية الناس في ضنك شامل، ولـ"النداء" دور محمود في إطلالته مجددًا على قرائه حتى اليوم السابق لرحيله.
أخيرًا لو أن المساح والرازحي ولدا في بلد غير اليمن، لكان لهما شأن آخر. آه يا زمن.
المساح: حياة وحيوية وإنسانية
2024-04-20