علي محمد زيد يكتب في وداع الرائد القدوة أحمد جابر عفيف
أيها الرائد القدوة.. وداعاً
* علي محمد زيد
أيها الرائد الجليل القدوة،
كيف تركتنا في هذه اللحظة التي نحن فيها أشد ما نكون حاجة إليك، إلى بصيرتك التي تتجاوز الانفعالات الطارئة لتنظر بعمق وهدوء إلى البعيد، إلى ما يبقى ويدوم ويتواصل ويتراكم ليحدث التغيير المطلوب بمرور الزمن، إلى صمتك البليغ الذي يترفع فوق ترهات الكلام لينطق بالحقيقة الباقية. إلى ثبات موقفك التنويري المتجاوز لنزعات التراجع نحو عصور الظلام. إلى عصاميتك الفريدة الناجحة في وجه طغيان روح الحرمان والإلغاء والإقصاء والتجاهل. إلى تعالي شخصك على محاولات الاستقطاب والاستتباع وشراء الذمم.
آمنتَ إيمانا راسخا بأن التعليم واكتساب المعارف طريق الخلاص من التهميش والفقر والاستبعاد والتجاهل، على المستوى الفردي الخاص وعلى المستوى الوطني العام، وقدمت الدليل على ذلك إذ جعلت سيرتك العطرة تجسيدا عمليا لهذا الإيمان، وشاهد عيان على صدق ما ترى. وجعلت الإصرار والمثابرة والعمل بلا كلل طريقك إلى النجاح، وقدمت الثمن حين لا مهرب من تقديمه دون ادعاء أو ضجيج، في بلد لا سبيل إلى النجاح فيها دون ثمن باهظ إذا أراد المرء أن يحافظ على حقه في قول ما يراه صحيحا دون خنوع أو ابتذال.
خرجت طفلا يتيما من تهامة الرازحة تحت نير استبعادها المتواصل حتى اليوم والغارقة في ليل ظلم تاريخي لم يمَّح بعد، لا تملك سوى روحك الغض الطموح، وإرادتك التي تمرست بمرور الزمن على أن لا تستسلم بسهولة للظروف القاسية ولا تهين أمام المصاعب. وكان اكتساب المعرفة هدفك الأول وطوق نجاتك الأهم. وانتزعتَ، بأعجوبة، من بين غياهب الظلام والضياع طيفا ضئيلا من فرصة متواضعة كان يمكن أن تضيع وتتبخر كما تبخرت آلاف الفرص، وملايين الاحتمالات في نظام حكم من طبيعته الضياع وهدر الفرص والسير عكس تيار التاريخ الصاعد، ولكنك أمسكت بتلك اللمحة السانحة ومضيت تتلمس طريقك بين حقول الأشواك وفي مواجهة الأشداق المفترسة، لتراكم النجاحات الصغيرة حجرا فوق حجر، وتبني منها صرح نجاحك الكبير حتى وصلت إلى جيلنا علما شامخا يساعدنا في تبين ملامح الطريق بين ركام المصاعب والبلادة والضياع.
حين لاحت بوادر التغيير عام 1948، في محيط منغلق عن عالمه، ونظام معزول يسير نحو الانقراض، أمسكت بما يبقى من هذا التغيير الذي أخفق تحت ضربات الطغاة، مع أنك كنت ما تزال في مقتبل العمر دون تجربة عملية تذكر. لم يصدك السجن عن التعلق بحبل التغيير الواهن في خضم ذلك الاضطراب الكبير وتلك المعاناة الشديدة وأمام مشهد الثمن الباهظ الذي قدمه الثوار، لتمسك بلحظة التنوير الواهنة، وتمرِّن إرادة التغيير المرتعشة، وتنسج بهدوء وصبر بعض معالم السير نحو غد أفضل للأجيال المعذبة المحرومة. استقرت نفسك التواقة للتحرر من الاضطهاد ومن الظلم عند فكرة الإلحاح على وجود دستور يضمن حماية المواطنين وحقوقهم في وجه الطغيان المتجدد بأشكال مختلفة، ويرسي حكما ديمقراطيا يضع نهاية لحكم الغلبة المتواصل حتى اليوم.
وحين تحقق التغيير الأهم في سبتمبر 1962، بعد أن أسهمت بتواضع في العمل من أجله من خلال علاقتك بالشباب الذين صنعوه، لم تنسَ في تلك الهزة الكبيرة التي خلفتها الحرب، أن تتمسك بحبل التنوير وأمل الديمقراطية، وظللت على إيمانك بأن الثورة الحقيقية لا تتحقق بدون العلم ونشر المعارف لتعم البلاد كلها وتبث روح التحرر والبناء والطموح لاقتحام الصعاب وإرساء أسس المجتمع الجديد. وكنت في كل محطة من محطات الاضطراب ومحاولات التغيير نحو الأفضل وفيا لنفسك أولا، ولتلاميذك ومحبيك ثانيا، تقف بثبات إلى جانب التقدم نحو المستقبل في وجه الهجمات الشرسة التي يشنها الطغيان وقوى الغلبة على قوى التجديد.
أثبت بتجربتك وبدعوتك التي لا تكل أن التعليم واكتساب المعارف طريق البلاد إلى تجاوز الفقر والاستبداد والتخلف المتواصل، واعتبرت الجهل والفقر عارا ينبغي العمل الدؤوب للتحرر منه. وحين أتيحت لك فرص العمل العام في مجال التربية كنت أول من أطلق عجلة التعليم الحديث ليكون طريق اليمنيين نحو المستقبل الأفضل. وحين استُبعدِتَ من العمل في مجال التربية لم تتخل عن إيمانك الراسخ بأن التربية بمعناها الواسع ميدان الرهان على المستقبل. وكنت في كل محطة من محطات العمل العام مثالا في الإنجاز والإتقان في السير مباشرة نحو تحقيق نتائج ملموسة ظلت شاهدة على فعاليتك وحسمك.
آمنت بقدرة الشباب على بناء المستقبل فعولت عليهم وعملت ما تستطيع لمساعدتهم على شق طريقهم في مرحلة سادت فيها رسميا سياسة الاعتماد على الولاء واحتقار الكفاءة واستبعاد القدرات. وكنت تردد دائما أن تغليب معايير الولاء على معايير الكفاءة إهدار لمستقبل البلاد وعربدة برأسمالها الأغلى. وكرست نفسك بتواضع العظماء لاكتشاف القدرات والمواهب ومساعدتها على تجاوز الصعاب التي توضع قصدا أو إهمالا في طريقها، واضعا المستقبل في رأس اهتماماتك. وظللت طوال حياتك وفيا للبسطاء الذين يمتلكون القدرة والإرادة على المثابرة لتجاوز ظرفهم الإنساني الصعب، وإن كنت لا ترتاح لتصرفات البسطاء المستسلمين لظروفهم الصعبة، لأن مفهوم الاستسلام مطرود من قاموسك. لكنك حين يقرر أحدهم مواجهة ظرفه الصعب تبذل ما تستطيع من جهود لدعمه كي يتجاوز الصعوبات، ولا تتردد عن الدعوة لمساعدته، وتدفع من مالك الخاص لدعم مساعيه للخروج من الدوامة التي تحيط به. وكنت ترى أن أولى خطوات البسطاء على طريق تجاوز الإهمال والاستبعاد والحرمان أن يمتلكوا القدرة على الاختيار وأن يتمردوا على واقعهم وعلى ما يراد بهم ويثابروا لمواجهة مصاعب الحياة، الرسمية منها وغير الرسمية. وكان أكثر ما يزعجك كثرة الشكوى والضجيج الفارغ دون عمل لتجاوز الصعوبات. الفعل أول الطريق في نظرك. والعمل المثابر طريق النجاح. لا تنكر تأثير السياسات الرسمية في إحباط الشباب، ولا تتجاهل المعوقات الكثيرة التي يزخر بها مجتمع يعاني من الاستبداد والتخلف، ولكنك ترى أن الشباب مسؤول جزئيا عما يؤول إليه حالهم لتقاعسهم عن السعي للتغيير ودفع الثمن. لا تحب الادعاء والضجيج الفارغ، بل تحترم العمل والفعل الذي يعطي نتائج ملموسة حتى لو كانت متواضعة. عقلك العملي يضيق بالكلام من أجل الكلام. للكلمة في رأيك معنى يتجه إلى الفعل وإلا فالصمت أولى. وصمتك أمضى من قناطير الكلام الذي تضيق به مقايل المدينة في حين تخلو ساحات الفعل من العمل الدؤوب المثابر الصبور.
تمتاز بموهبة الاستماع بحس ديمقراطي مرهف، ولكن ليس من أجمل الثرثرة وقتل الوقت الثمين، بل من أجل العمل. ولذلك يظل تركيزك طوال الاستماع الوقور على لحظة القرار لتتحول الكلمات إلى أفعال ملموسة متقنة في وسط اعتاد على كثرة الكلام دون نتائج عملية أو على الفعل الرديء الذي يترك أثرا سالبا. تُراكِم الانجازات الصغيرة بمرور الزمن حتى تُحدث التأثير المطلوب في حين يحرص خصومك على الكلام الأجوف في نقد ما تنجز وما تفعل، وفرق ما بين الكلام والفعل. لا يسرُّك ممن يعملون معك من الشباب شيء قدر سرورك بمبادراتهم وباقتراح الجديد وبالمثابرة على العمل عند التنفيذ. تستمع إليهم بحنان، وتحثهم بهدوء وصبر، وتشجعهم متى بدأوا العمل حتى يحققوا النتائج المنتظرة.
وحتى حين أُغلِق أمامك باب العمل العام وأراد القطاع الخاص أن يستفيد من عقلك العملي وحرصك على الإنجاز وميلك للإتقان، ووجدت بعد تجربة قصيرة أن المطلوب منك لا يتفق مع رؤاك وتصوراتك، تخليت راضيا بهدوء عن المرتب الكبير الذي يهرع إليه أي شخص، وتركت السيارة الفاخرة والسائق والامتيازات، ولذت بحمى مؤسستك الثقافية التي تفتح أبوابها للشباب كي يتبادل الآراء ويتحاور ويفكر ويبحث عن الخيارات العملية للخروج من أزمته وأزمة البلاد، والعثور على طريق آمن نحو المستقبل. وحرصتَ طوال تجربة هذه المؤسسة على أن تظل ميدانا للحوار الديمقراطي الحر بين الأجيال والتيارات والاتجاهات، وصوتا للتنوير والبناء ودعوة للتغيير. فتحت أبوابها للجميع رجالا ونساء، وحرصت على أن تتيح للجيل الجديد من النساء منبرا مسؤولا للتفكير والحوار وبث روح التحرر من ركام القرون الغابرة.
ولأنك من جيل العمالقة الذين كرسوا حياتهم من أجل التغيير والتقدم، كانت رسالتك لنا جميعا: العلم والتنوير والعمل والديمقراطية والتحرر من الاستبداد للتقدم على طريق التغيير. ولم تكتف بوصايا الكلام، فقد قدمَت لنا حياتُك الرائدة المثلَ والقدوة للإسهام في تحرير أنفسنا وبلادنا من سطوة إهدار الفرص المتاحة للخلاص من الفقر والاستبداد، لنبني بلدا حرا يفتح أمام أبنائه أبواب الحياة الكريمة.
في وداع الرائد القدوة أحمد جابر عفيف
2010-02-15