**
"رجل الدين لا يمكنه السيطرة عليك إلا إذا استطاع إقناعك بأنك كتلة متحركة من الخطايا والذنوب والآلام والحطام، ليسوقك بعدها كالنعجة إلى حظيرته" فردريك نيتشه
**
الدكتور أبوبكر السقاف برفقة زملاءه وطلابه وطالباته
في منتصف الثمانينيات سنة أولى جامعة، كانت تسبقنا ضحكاتنا وصخبنا فتضج كل أروقة الجامعة، طاقات من الحب والتمرد والموسيقى والشغف بالمعرفة وبالتفاصيل اليومية للطالب الجامعي، وامتلاك الأفق، كيف كان الكون يتبدى لنا مشرقًا مموسقًا، يفرش إشراقاته أمامنا وخلفنا، وكل ما حولنا، كنا نفترش العشب الأخضر في ساحة جامعة صنعاء -كلية الآداب، يتوسطنا الشاي الأحمر بالنعناع، نناقش ونسمع القصائد والدندنات، والحشوش، والنكات، كان قسم الفلسفة الأكثر تمردًا على الحُجب أيًا كانت -فلقد كانت الأفكار اليسارية هي زادنا- ليس ذلك فحسب، وأستاذنا الدكتور أبو بكر السقاف ينير طريقنا بفلسفة الأنوار من سقراط وأرسطو وما قبلهما، إلى فلسفة ديكارت وكانط وهايدجر وسبينوزا وهيجل، إلى الفلسفة الهندية، والفكر العربي المعاصر: هاشم جعيط وعلي أومليل وهشام شرابي... الخ.
في هذا السياق، كان هناك اتجاهان وجودهما الأصلي من أجل وظيفة وأد ضحكاتنا والتلصص على "الحشات" الساخرة، وقصف "أنا أفكر إذن أنا موجود"، هيئاتهم المتقنفذة باستعراض ملابس التقوى فيحوقلون، ويستعيذون بالله من الشيطان الرجيم من النساء/ الطالبات، واختلاطنا المتسبب الرئيس في إفساد وتقويض الهوية الأخلاقية والإيمانية والعرض والشرف والعادات والتقاليد اليمنية (على قولتهم)،
هما اتجاهان لكنهما بعقلية واحدة، إن لم يكونا وااااحد، كانا: الأمن الوطني والإخوان المسلمين السلفيين، وبحوزتهم كم من المتبرعين: أذرعتهم الذين يقدمون خدمات مجانية، للمنع وتقديم أخبار استراتيجية تهدد أمن العالم الإسلامي، واليمن الإيماني خصوصًا، مثل: أمسكنا بطالب وطالبة "مجاميع مختلطة" في المكتبة، أو عند النافورة، في المعمل، الفناء والمدرج، والمقصف.. الخ، وبأم أعينهم الإلهية رأت الشياطين وجموع الجن والعفاريت الذين لا يعدون ولا يحصون، نرتكب الفاحشة بالشاي الأحمر بالنعناع والسندويتشات، ومتابعة فقرات من مجلات روز اليوسف وصباح الخير، وحل الكلمات المتقاطعة، وأحدث أغنية لشادية أو فيروز، وسماع قصائد شعرية، وروايات أدبية جديدة، فضلًا عن التنكيت الساخن عن جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وملابس عفتهم الربانية، أو عسكر الأمن الجامعي/ الوطني.. يااااالله كم كنا نقهقه حتى تتشغرر دموعنا، خصوصًا عندما كنا نرى غيظهم وعيونهم يتطاير منها الشرر.
اتحد الاتجاهان في تفصيل الوصمة: أننا شيوعيون وداعرات، مسترجلات، داشرات وو، فحمية التهم تتفعل بقوة آنذاك، مع الساعة السليمانية والفرغة للتفتيش في العقول والضمائر، لتمتد التعبئة المهووسة لحشود من أطفال المدارس، وخصوصًا مدارس تحفيظ القرآن والمعاهد العلمية، ليقوموا بالبصق والشتم واللعن، علينا، ولا أنسى تعويذة أطفال الرب: ارجموا الشيطان، تستقبلني، تودعني من الجامعة إلى السكن الجامعي والعكس.
[URIS id=49931]
(2)
أذكر، كم هي المرات التي سُحبت بطائقنا الجامعية، من قبل الحرس الجامعي (الأمن الوطني)، ولمن يجلس معنا أو يكلمنا، بحجة إفساد الشم الإيماني بالاختلاط وممارسة الرذائل التي لا تمت ليمن الأصل والإيمان والوعل والأقيال، وأغدق مسجد الجامعة بخطب حنانة وطنانة. كانت جموع الرب والهوية الإيمانية القطعانية آنذاك بمثابة المليشيات الفيسبوكية والشوارعية التي نراها اليوم، ونعترف بأنهم أول من اكتشف الفيسبوك، قبل مارك زوكربيرغ. وكانوا ينقشون خطبهم على غرار خطاب 2011: "رأيت خالد بن الوليد، وحلمت بالرسول، وحلمت بمعاوية، وعلي بن أبي طالب، وحليمة السعدية"، حلموا كلهم في ليل بهيم، بطالب وطالبة وأمة من الشياطين توسوس لهما بارتكاب الفاحشة، وبمجاميع طلابية يخدشون الحياة، أمام الملأ.
في تلك الأيام، لم يكن هناك بعد منظمات دولية، وألقاب،كـ: ناشطة، ليوصمونا كما حصل في 2011 من قبل "حماة الثورة" والقبائل وحزب التجمع اليمني للإصلاح/ الإخوان المسلمين، والسلفيين، والقوى التقليدية التي تحكم اليمن أكانوا من "السبعين"/ "الشرعية الدستورية"لعلي عبدالله صالح، أو "الستين" لـ"إسقاط النظام"، و"ارحل"، من أننا عملاء للغرب والسفارات، والعدوان، وعبيد الدولار، وخونة ومرتزقة... الخ، ياااالله كم يتفق آلهة العورات وأصنام الرب: على التهم المسعورة للتنكيل بكل من يختلف عنهم، وعلى النساء، وألا يظهر وجه مفتوش لنا!
(3)
أتذكر في ذاك الوقت من منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، وفي قلب كلية الآداب -جامعة صنعاء- بدأ رعية "الإسلام السياسي" وريعهم من الذين ذكرتهم أعلاه، بالفصل بين الجنسين، ليس في قاعات المحاضرات، بل حتى في فناء الجامعة أمام الله والناس، للأمانة، كان لا يهمنا من يجلس معنا، خلفنا، أمامنا، بجانبنا، متجمعين أو متفرقين، إلا في حضور المادة السامة لما تسمى "الثقافة الإسلامية" النسخة الوهابية الإرهابية في قاعة جمال عبدالناصر، كانت هي المادة الرئيسية التي تحولنا إلى "قطيع إسلامي" أصولي وشرس، إذ يفصل قطيع الذكور عن قطيع الإناث، بأمر دكتور المادة، بدرجة بروفيسور/ داعية، وخطيب جامع، "شاقي فارغ" لحزب الفتاوى، وما يقهرك، سوى أنهم نالوا شهادتهم (العلمية)، وأقوسها من أرقى جامعات العالم، بل أحدهم، كان ماركسيًا متطرفًا وو.
(4)
في هذه الحقبة، فاحت رائحة التدرن، و"الكَماعة" العقلية والروحية لفيالق من القطيع التدريسي، مصحوبًا بالأمن الجامعي والأمن الوطني (الاقتران السياسي -الديني)، والشعبويين، يرفعون شعارات من مسجد الجامعة، وقاعة المحاضرات، والمكتبة، والطواريد، والفناء الجامعي: أن "أخلاق الأمة اليمنية في خطر"، وأن "الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية مهددة بالغزو الفكري"، وعودة "الجاهلية الأولى"، وأن "هوية اليمن الأصيلة في مخالب التبشيريين من اليهود والنصارى"، وأن نساء اليمن وطالباته السافرات "يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى"... الخ، وأن واجبهم الديني الوطني يقتضي حماية العرض وشرف الأمة، وإحقاق الحق في وجوب فصل الطلاب والطالبات، بل طاشت مخيلة القطيع الأمني -الأكاديمي ومشايخهم وزبانيتهم من الرعاع الطلابي، بالمطالبة بأن يكون هناك جامعات للذكور وجامعات للبنات، مثلما المدارس، وأن تكون هناك شوارع وأسواق وسائل مواصلات منفصلة... الخ. أما المقصف البائس، فقد دخلنا الجامعة وهو مفصول، فالطالبات يتناولن أكلهن وشربهن من خلف حجاب في غرفة ضيقة مليئة بالخردوات، أما الطلاب الذكور فكانوا يأكلون ويشربون الشاي في الهواء الطلق، يضحكون ويزبجون ويتنططون، حتى غدت مقولة (اللهم لا حسد كـ"موس" لم نستطع أن نبلعها، بالفعل كنا حاسدات وحاقدات)!
لقد كانت مطالب قطيع الوهابية بنسختها الأردأ يمنيًا، باهظة وخيالية، ونسوا أو تناسوا أن جامعتنا القديمة: "كلية الآداب" وجامعات صنعاء بعد ذلك ومكتباتها، وو... الخ، بنيت على نفقة دولة الكويت، مثل معظم مدارسنا ومستشفياتنا وكثير من البنى التحتية، فلولاهم لمتنا جهلًا وفاقة ومرضًا وو، لكن مقولة "وما يقيد الله إلا وحوش"، كانت المانعة لهم، فالفقر كافر! ولذا كان "حيرهم" الذكوري الإيماني على الطالبات وكاشفات الوجه تحديدًا.
(5)
ياااالله، كنا شلة متمردة من الزميلات والصديقات والزملاء في قسم الفلسفة -اشتقت لهن/لهم- ورفضنا الفصل بين الطلاب والطالبات في قاعة المحاضرات وكراسي الحديقة، وو، وانصبت الشتائم تنهال علينا والعرعرات، والألفاظ الفاحشة، لكن تمردنا كان قيمة، أمام "همج الله"، والطاعون الوهابي القادم من مكة والحرمين. نعم، كان التمرد، هو الحق الوجودي الذي لا يمكن التنازل عنه.
أقول -وفي قلبي غصة- كانت قوة الظلام في اليمن تنتصر دائمًا، أمام "حيث العقل لا يخاف"! فخلال الأربع سنوات من منتصف 1984 إلى 1989 دراسة في جامعة صنعاء، كان كل يوم يختفي وجه مشمس، بابتسامة، ليتشرشف، ويضم إلى قطاع/ قطيع السواد المكتسح، "نعم" كل يوم تتعالى وتتوعر جبال العيب والحرام، -كونها جزءًا لا يتجزأ من العقلية اليمنية-
فكل يوم نجد فتوى ورسمة وخطابًا على شخابيط الجدران، أو بيانات، بوجوب فرض "الغلمقة" شرعًا وقانونًا، وعادات وتقاليد... الخ، بل إنهم منتصرون لأنهم الطرف الحق باسم الله لحماية المجتمع من الانحراف، و"الله أكبر، جاء الحق وزهق الباطل"، كل ذلك الهوس وشيطنة الوجه وشطب ما تبقى منه، تكاثر وتناثر بفتاوى "الدواثة" لقصف جبهاتنا اللامعة بالوجه المكشوف وارتسام شقشقة الضحك والبسمات، وانسياب خيوط الجمال التي بدت تخبو متوجسة مذعورة.
وسال قطيع مأتمي وتأثيمي مشرشف يرتص في القاعات وأروقة الجامعة والكليات والحياة. وكلما فتحت نافذة للضوء أسرع جلاوزة الإفتاء بدرجة بروفيسور، وخطيب، وقائد: مليشيا مؤدلجة: قف "أمامك وجه مفتوش"، وجب كبسه بزر الشرشفة الربانية: "حيث اللاعقل، اللاوجه اللافلسفة مت مليون مرة رعبًا".
(6)
للأسف انتصر "فكر الدواثة"، بإطلاق منصات قطيع الذباب المتخصص في غزو ولعق وجوه النساء السافرات وملابسهن، وحركاتهن، نعم الفكر الوهابي الدوث، سحب بقوة بساط الخضرة، وتصحرت الأروقة، ومعهم تصحرت عقول من تبقى من الأساتذة التنويريين، وأقفلت بأصفاد الموتى، بعلم بلا تعليم بلا أدب وفن وفلسفة، ومستقبل وحياة، بل غدا أساتذتنا في مرمى نيران أساطين الظلام: أبو بكر السقاف وعبدالعزيز المقالح، وحمود العودي يكفرون، ويعتدى على الدكتور السقاف والأديب زين السقاف (1995)، بالضرب والتعذيب، وبالمثل نال الدكتور حمود العودي التنكيل والنفي، وظل الدكتور عبدالعزيز المقالح يمشي بحراسة حتى مماته.
قطف خبر:
في بلاد رأسمالها المادي والرمزي: الجرامل والقات، وخرافات الفرغة المجانية العبثية: "اليمن الأصل والإيمان والحكمة"، يتكاثر ويتناسل الموتى والمليشيات، مخلفين، ليس الحروب والمجاعات المزمنة، بل حق الشطب والإلغاء: العقل، نساء بلا وجوه، عورااات، ليس إلا، وحق الفتشة باطل حتى بعد قيام الساعة، فمليشيات الرب هي من تتكلم!
وليس بآخر، في 21 سبتمبر 2014، قدم الإلغائيون الجدد/ القدام، القرآنيون الناطقون، والمسخرة الإلهية لشُصار الله": الحوثية الفاشية البدائية، ليتفننوا، بـ"ارحبي يا جنازة فوق الأموات"، وليستكملوا المسيرة، ليس بشطب وجوه النساء/ العورة، فحسب، بل وشطب الحياة.
باقي كلمة:
هل من حقنا، أن نقول في 2024، سحقًا ليمن الأصل والحضارة والإيمان والحكمة، ورب غفور، التي تجرم النساء، وتستعور: حق الوجود وحق الوجه وخلاياه في التنفس من هواء رب العالمين!
وإلا كيف تشوفوووا؟!