مجنون طائرة الخليج والجزيرة..!
*منصور هائل
يمكن إدراج بعض الكلام التافه الذي قيل في فندق موفنبيك، الأسبوع الماضي، ضمن الحكاية التي تتحدث عن مختل صعد إلى الطائرة، وبعد الإقلاع خلع معطفه وروع الركاب بهيئته كرجل مفخخ ومزنر بحزام ناسف، وشرع بتهديد الركاب أنه سينفجر وينسف معه الطائرة بما فيها، وراح يتوعدهم ويهددهم وهو يعلن عليهم لائحة طلباته بابتزاز مستفز وفاضح، إلى أن أفاق الركاب من هلعهم على كائن خلطة من هستيريا الفصام والعظام، وسارعوا لمداورته ومناورته والتحايل عليه، وتدليك قرون غروره ونرجسيته الجريحة.
وقد نجحوا، لأنهم فطنوا إلى أن المديح هو الجرعة المناسبة لتسكينه، وعمدوا إلى إطراء حكمته ووسامته وفروسيته وشهامته، ورحابة صدره، وحلمه ومحبته للإنسانية المعذبة والطفولة البريئة ولكافة ركاب الطائرة المساكين، الطيبين والمحبين لشخصه الكريم، المنقذ، فهو ملاك رحيم ومخلص عظيم وإن ظهر عليهم وهو مزنر بالمتفجرات وينذرهم بالانتحار والانفجار.
كان عليهم أن يتعاملوا معه كمريض أو كطفل، في أحسن الأحوال، فهو أحمق وغبي، وذلك أخطر ما فيه، حسب توصيف فيودور ديستويفسكي الروائي الروسي الضالع بدخائل النفوس والقائل: «إن المرء يكون أقرب إلى الحقيقة حين يكون غبياً. إن الغباء يمضي نحو الهدف رأساً. الغباء بساطة وإيجاز، أما الذكاء فمكر ومخاتلة» -رواية الإخوة كارامازوف.
وثابروا في مخاتلته، وأظهروا استجابتهم لتلبية رغباته الساذجة، العبثية، والمستحيلة، حتى يكسبوا وده وثقته، ويطيب خاطره، ويسري الخدر في أوصاله، ويركن إلى ظفره بما أراد، ويكونوا بذلك، قد كسبوا الوقت المطلوب لوصول الطائرة إلى أقرب مطار آمن وجاهز لتكبيله وتعقيله إما بإحالته إلى أقرب قسم شرطة أو إلى أقرب مصحة نفسية وعقلية أو حسب ما تقتضيه حالته.
... تكاد هذه الحكاية تساعد على تقريب شيء من صورة بعض اليمنيين الذين شاركوا في ندوة «العلاقات اليمنية الخليجية»، وتضمنت مداخلاتهم الكثير من «التهديدات المبطنة» -حسب خالد الدخيل- لدول الخليج والسعودية، وبدوا كمن ينطق بلسان حال بطل الطائرة.
وإلى أبعد من «التهديدات المبطنة» ذهب بعض الكلام المعزز بتصرفات صبيانية طفحت في مجرى بعض الممارسات اليمنية الابتزازية لدول الجوار الخليجي. وكأنهم كانوا يقولون: إما أن تستجيبوا لمطالبنا وإلا سننفجر بأحزمتنا الناسفة عليكم: القاعدة، والإرهاب، والانفجار السكاني والبطالة... الخ.
كان التلويح بورقة الإرهاب واضحاً، وثمة من لوح بورقة الأجانب المقيمين في دول الخليج، وقال بأن المجتمع الدولي سيضغط على دول المنطقة لتمنح الأجانب الإقامة والجنسية، وبعدها سوف يضغط باتجاه إطلاق الحريات وإجراء الانتخابات الديمقراطية، ما يعني فسح المجال لصعود الأجانب إلى دفة الحكم عبر صندوق الاقتراع، كونهم الأكثرية، الجديرة بالحكم بدلاً عن الأسر والعائلات الحاكمة، بل والسكان «الأصليين» الذين يشكلون أقلية في بلدانهم، أوليس من الأحسن الاستعانة بمدد اليمن؟!
وهنالك من جدف بهرطقات أخرى، ولوح بورقة يمن الجغرافيا والتاريخ والأصل والحسب والنسب، واليمن بما هي عمق استراتيجي وثقل سكاني، بل مخزون بشري هائل و«أبناء عم»!
وتحدثوا عن مخاطر وعقابيل الانفجار السكاني، مؤكدين على ضرورة أن تسارع دول الخليج لتلافيه بـ«استيعاب العمالة» اليمنية، وإدماج اليمن في عضوية مجلس التعاون.
بهذا المنى صارت دول الخليج مدعوة إلى استيعاب البطالة اليمنية، يقولون العمالة، واحتواء تبعات الانفجار السكاني، ولا ناقة لهم في الإنجاب ولا جمل في الحبل. والأنكى أن بعض الأحاديث كانت متقيحة، وقد نزت بصديد الاستعلاء العنصري على جيراننا في الخليج، ولم تخلُ من عبارات الهجوم التي كان نصيب السعودية منها هو الأكبر.
المقرف أن بعض البواقين بهذه الوقاحات كانوا ولازالوا من أشهر المتهافتين على عطايا أمراء وموائد سفراء دول الجوار الخليجي، وقد انحصرت لعبتهم في نفخ «فقاعة وفرقعتها أثناء وعلى هامش مداولات الندوة، بموجب تعليمات سلطة عليا طالما استمرأت لعبة تحويل «الفقاعة» إلى حدث وحديث ومفارقة، وكثيراً ما انعقد رهانها على العيار الذي يدوش ويربش ويشوش من منطلق خبرتها بطبائع واستجابات اللاعبين الآخرين في المنطقة.
والخلاصة أن التشويش والتمويه على التحديات والأزمات الشرسة التي تواجهها اليمن اليوم قد صارت ذات طبيعة انفجارية، ولم يعد ينفع أسلوب النعامة، وقد أصبحت أساليب الابتزاز والتهديد المبطنة والسافرة مفضوحة ومستنكرة ومقززة. فليس الجيران من وقفوا وراء فشل بناء دولة القانون، أو وراء الفساد والفوضى والاضطراب والعفن والتفسخ والحروب المستعرة من صعدة إلى المهرة، وليسوا هم السبب في رفع مستوى الخصوبة والإنجاب و«الانفجار السكاني»، ولا السبب في رفع معدلات «البطالة»، وفي دفع بقايا «الدولة» إلى التحلل والانفراط التام.
وليست استقالة النظام الحاكم من المسؤولية تجاه هذه الأوضاع الكارثية مقبولة، وكذلك هو الحال بالنسبة لكافة الأطراف والأطياف اليمنية التي يقول منطق القوى الإقليمية والدولية بمسؤوليتها عن مساعدة نفسها قبل أن يساعدها الآخرون، ودون ذلك فالكارثة ماحقة، وهي قدر منتظر ولا ريب فيه، إذا ما تمسكت السلطة بلعب دور البطل في فيلم الطائرة في حال صلاحية الحكاية للطباخة السينمائية.
مجنون طائرة الخليج والجزيرة.. !
2010-01-24