التعليم هو أساس التطور ومنطلق النهوض الشامل. هذه حقيقة لم تعد موضع نقاش. فالكل مسلم بصحتها. ولكن ليس الكل مهتمًا بها حريصًا على العمل بموجبها. رغم أن تجارب الشعوب في تاريخنا المعاصر مبسوطة أمامنا، نعرف من خلالها أن الاهتمام بالتعليم هو سر نهوضها وتقدمها وانتقالها من مصاف الدول المتخلفة إلى مصاف الدول المتقدمة.
فالدول المتخلفة التي تمكنت من الخروج من دائرة التخلف، بدأت مسيرتها بالاهتمام الجدي بالتعليم، فلسفة ومنهجًا ومدرسًا. وهو ما لم تلتفت إليه حكوماتنا العربية، التي لم يتطور التعليم على أيديها، بل تراجع خطوات على مدى العقود المنصرمة.
فالتعليم عندنا لا فلسفة له، بل يمارس كأنه مجرد عادة من العادات اليومية، التي تمارس بصورة روتينية، لا تستدعي وضع فلسفة وطنية للعملية التعليمية، ولا تحديد أهداف لها، ولا ربطها بالخطط التنموية الشاملة، ولا تتطلب مراجعة وتطويرًا مستمرين.
والمناهج الدراسية مناهج عقيمة، أساسها التلقين والحفظ، لا تحرض ذهن الطالب على التفكير ولا تحفز قدراته الإبداعية. بل إن معظم الأنظمة العربية الحاكمة تعمد إلى توظيف التعليم توظيفًا سياسيًا، وكأنها تلحقه بأجهزتها الإعلامية، الموكل إليها تزيين صورة الحكم وتوجهاته وسياساته، وتبرير ممارساته، وتكريس أيديولوجيته وترسيخها في أذهان الطلاب، تطويعًا لهم وضمانًا لولائهم.
والمدرس يعيش ظروفًا لا تليق بمربي ومعلم الأجيال، سواءً من حيث راتبه المتدني، الذي يؤثر تأثيرًا جليًا على مستوى معيشته وعلى مظهره وعلى مكانته الاجتماعية، أو من حيث الاهتمام بتأهيله العلمي والتربوي، بحيث يصبح قدوة ونموذجًا قادرًا على العطاء، وعلى تطوير قدرات ومهارات ومعارف طلابه.
لقد تعالت الأصوات وتعددت الكتابات على امتداد الوطن العربي، وعلى مدى العقود المنصرمة، منبهة إلى غياب فلسفة تعليمية واضحة، وناقدة للمناهج الدراسية ولتدني مستوى المدرس. ولكن كل الأصوات والكتابات ذهبت أدراج الرياح، ولم تكترث بها الحكومات العربية، ولا يبدو أن أحدًا يأبه بها سوى أصحابها.
والنتيجة هي ما نشهده اليوم من تراجع مخجل للمستوى التعليمي في الوطن العربي كله تقريبًا. إلى درجة أن بعض المدرسين والأساتذة في كل المراحل الدراسية، بما فيها المرحلة الجامعية، لا يتقنون المهارات الأساسية، كالإملاء وقواعد اللغة العربية. والسبب في ذلك هو عدم إعطاء مرحلة التعليم الأساسي (الابتدائي + المتوسط)، وهي مرحلة التأسيس العلمي، عدم إعطائها الاهتمام الذي تستحقه. فلا اهتمام بمدرس هذه المرحلة، من حيث تحسين مستواه المعيشي ورفع كفاءته ومهاراته اللغوية ومعارفه التخصصية. ولا مراجعة للمناهج الدراسية وتطويرها، بما يتناسب مع التقدم العلمي في العالم ومع الأهداف التنموية، التي لا بد أن يُربط التعليم بها ويشكل أهم مدخلاتها.
والأدهى من هذا أن أضعف المدرسين علميًا وأقلهم تأهيلًا يتولون التدريس في مرحلة التعليم الأساسي. وهنا تكمن العلة. فنظرًا لضعف المدرس، لا يمكن لمرحلة التأسيس هذه أن تزود تلاميذها بالمهارات الأساسية، التي يعجز الكثيرون منهم عن تعويضها في ما بعد، أو لا يهتمون بتعويضها. والنتيجة هي هذا التدني الذي نشهده، والتشوهات التي نراها لدى كثير من المدرسين والأساتذة والكتاب والأدباء والصحفيين ومذيعي القنوات الفضائية، وهم بناة الوعي والثقافة في عصرنا هذا. فهؤلاء لم يكتسبوا المهارات الأساسية في المراحل الدراسية الأولى، وأصبحت تشوهات التأسيس تلازمهم في المراحل العليا وطوال حياتهم، وتنتقل منهم إلى طلابهم وقرائهم، فتنتقل بذلك وتتضاعف من جيل إلى جيل.
ولا يقتصر تدني المستوى التعليمي على المهارات الأساسية المتعلقة باللغة، واللغة كما هو معلوم، ليست وسيلة التواصل والتفاهم وحسب، بل هي أداة التفكير والتعبير والتدوين والتحصيل العلمي، أي هي وعاء العلم، بل يشمل هذا التدني المواد التعليمية كلها، بما فيها المواد العلمية البحتة، كالرياضيات والكيمياء والفيزياء وغيرها.
وقد حاولت أن أنبه إلى تدني المستوى التعليمي في اليمن، كنموذج للتدني العام في الوطن العربي. وذلك في مقال طويل نُشر في مجلة "اليمن الجديد"، عدد نوفمبر 1988م، أي قبل ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمن، تحت عنوان "التعليم والتنمية". ومنذ ذلك الحين لم تتحسن العملية التعليمية، بل ازدادت تدهورًا، حتى وصلت إلى المستوى الذي نشهده اليوم.
فإذا كان هذا هو واقع التعليم في الوطن العربي، فإن تحقيق نهضة عربية شاملة، أساسها العلم بطبيعة الحال، تبدو بعيدة المنال. فالنهضة علم قبل كل شيء. وهذا يفرض علينا أن نولي التعليم اهتمامًا حقيقيًا، فلسفة ومنهجًا وأستاذًا. وإلا فسنظل نراوح في مكاننا الذي نحن فيه، بل نتراجع عامًا بعد عام، قياسًا بتقدم الآخرين وتطورهم، بل قياسًا بمستوى التعليم في الوطن العربي قبل نصف قرن من الآن.
خواطر حول التعليم في الوطن العربي
2024-02-20