شاءت الأقدار أن تنهار الأنظمة العربية العميقة بثورات شبابية بدءًا من ثورة الياسمين في تونس، 17 ديسمبر 2010م، مرورًا بمصر 25 يناير 2011م، ثم اليمن وليبيا وسوريا في فبراير 2011م، ثم بدأ الحراك الشعبي في كل من السودان 19 ديسمبر 2018م، وفي الجزائر 22 فبراير 2019 م حتى 2022م، وهكذا دواليك.. ثورات أقضت مضاجع الأنظمة العميقة من غير رجعة بفضل شباب الأمة.
حري بالذكر، أن ثورات الربيع العربي، ثورات شبابية طليعية، متجددة، وأحلام لا تموت، ثورات صمدت، وستظل صامدة إلى أن تحقق أهدافها الوطنية بنضالية الشباب، والصدور العارية التي أنهكها الثالوث الرهيب: الفقر، والجوع، والمرض، كلها ثورات سلمية، دفع الشباب من أجلها سيلًا من الدماء الزكية، في سبيل "مشروع وطن عربي جديد خالٍ من الفساد، والظلم، والاستبداد".
ونتيجة لهذا المقصد الأسمى، هوت رؤوس الأنظمة كأول هدف لهذا الحصاد الثوري، وصار من اللزوم مواصلة المشوار تجاه تحقيق المبادئ والأهداف النبيلة المتضمنة: العدالة الاجتماعية، تكريس العمل الديمقراطي، ضمان الحريات العامة، التعددية السياسية، احترام حقوق الإنسان، المواطنة المتساوية، وأهمية تحديد الفترة الرئاسية، والانتقال السلمي للسلطة، والتوزيع العادل للثروة... الخ.
وها هي الثورات تخطو قدمًا رغم أن الطريق لم ولن تكون مفروشة بالورود والرياحين، وإنما:
"بنضال يصقل العزم به
وسهاد في العلا حلو الألم"
يقينًا، إن كل ثورات الربيع العربي، وبأمانة القول والمقصد، كانت لشباب طحنهم الجوع والفقر والمرض بكلكله، ومن حصاد تلك الثورات أسقطت أنظمة "مستبدة" كان شعارها: "أنا، وبعدي الطوفان"، في مقابل صيحة الساحات المدوية: "هرمنا، هرمنا، ارحلوا، ارحلوا...".
في واقع الأمر، صارت البلدان العربية طيلة أربعة عقود عبارة عن "ضيعات أو إقطاعيات"، وأهلها مجرد سخرة، يتحكم فيها "المختار أو الإقطاعي" وبطانته، وحاملو المباخر، يأمرون وينهون كيفما يشاؤون، دون رادع، وثورات وضعت أمامها الأشواك حتى قضى الله أمرًا كان مفعولًا، إذ لم يبقَ أحد من "المخاتير"، فأكثرهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر.
حقيقة، شباب بقوا في الساحات بضعة أسابيع يتلمسون حلًا لمشاكلهم تحت معاناة صقيع الشتاء القارس والبطون الخاوية، وكان الحل ممكنًا، في حال تم توظيفهم في المؤسسات المختلفة أو إصلاح أوضاعهم بعد عقد أو أكثر من تخرجهم من الجامعات ومن الثانوية العامة، والمعاهد الفنية والمهنية، سنوات عجاف قضوها دون عمل، لعوامل فساد استشرت في تلك المؤسسات، والمرافق العامة، لكنه بدلًا من الاستجابة لمطالبهم المحقة، أخذت "المخاتير" العزة بالنفس الآثمة، وذلك باستخدام كل ما يمكنهم من أساليب البطش، والقمع الممنهج، بسحق الشباب المسحوقين في ساحات الحرية قضوا بين قنص وحرق وضرب وتنكيل ورش بالمياه العكرة..
فمن انضم إلى تلك الساحات في ما بعد، وحاول أن يستثمر الثورات لصالحه، كان مصيره الفشل، ومن تقول عن الشباب بألفاظ غير مناسبة، فمصيره أيضًا الفشل، وبصرف النظر عن النوايا، إلا أن ثورات الشباب التي روت الساحات بدمائها الزكية، ستبقى تنبت زهورًا جيلًا بعد جيل، لتشق طريقها وتأخذ حقها في الحياة في عالم متجدد، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
من ناحية أخرى، لم يتبقَّ للأنظمة العميقة ومن يقف معها سوى تغطية فسادها بشتى الأساليب حلمًا واشتياقًا للعودة إلى الحكم بطابورها الثاني والثالث من خلال استخدام آلاتها وأبواقها الإعلامية، وبشيطنة متعمدة لشباب الثورة وكل جديد تحت يافطة: إخوان مسلمين، ودواعش، وقاعدة، مسميات أطلقوها على شباب بؤس، وأيضًا على عمال وفلاحين غلابى ثاروا على أوضاع فاسدة، مسميات لا يصدقها إلا السذج من الناس، وجاء هذا التشويه متعمدًا وغير موفق، بل نكاية بالثورات، وتضحيات الشباب، والانتفاضات الشعبية، وانهيار الأنظمة العميقة.
ومن المؤكد، أن الثورات قد بدأت، ولن توأد، إن شاؤوا هذا أم أبوا، وسيظل الحراك الثوري ينتقل من جيل إلى آخر في مسلسل لا تنقطع عراه حتى تنجز الثورات أهدافها النبيلة بكل عزيمة، وإباء، وإصرار.
ومن هذا المنطلق، إن ثورات الربيع العربي في المنطقة لا تكاد تختلف عن بقية ثورات العالم التي مرت بصراعات، وإرهاصات حتى تخطت الحواجز المعيقة، لتصل بعد عدة عقود من الزمن إلى الهدف المنشود.
قمين بالذكر، أن النظام في اليمن كان الأوفر حظًا من بين البلدان العربية الأخرى، وذلك بتدخل "مجلس التعاون الخليجي" الذي صاغ خريطة طريق بالتنسيق مع النظام السابق لمرحلة انتقالية تستغرق عامين، وتشمل المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح، ورافديهما من الأحزاب المؤيدة، لعل وعسى أن يحدث تغيير، لكن ما حصل سوى تجاوز صناع الثورة: الشباب والمرأة، "وكأنك يا بو زيد ما غزيت"، أي لم يكن لشبان وشابات الثورة أصحاب الحق سوى قدر قليل من نصيب في المرحلة الانتقالية، وكان الهدف من وأد ثورتهم التوجس خيفة من هبوب رياح الثورة الشبابية إلى عقر دارهم.
ومن الملاحظ، لم تكن المرحلة الانتقالية (2012-2014م) في اليمن، موفقة، إذ سادتها المناكفات السياسية بين شركاء السلطة العميقة، والفوضى العارمة والانهيار الاقتصادي.
وبالتزامن مع تلك الفترة العصيبة، أتيحت لشباب الثورة المشاركة في "مؤتمر الحوار الوطني"، مع جميع المكونات السياسية شملت أحزابًا، وأكاديميين، ومثقفين، بمن فيهم المرأة، أفضى إلى "مخرجات" هادفة لبناء الدولة الاتحادية الجديدة، تمت الموافقة عليها من قبل المشاركين كافة، وما تبقى سوى التوقيع على مسودة الدستور، لكن الأمور لم تناسب أمزجة البعض، إذ شعروا أن السلطة ستنتهي من قبضتهم رغم أن "المخرجات" كانت المخرج الوحيد لجميع أبناء اليمن قاطبة، وستبقى كذلك الضامن الحقيقي لخروج اليمن من بؤسها، ومحنتها نحو غد أفضل.
حقًا، لم يكن لشباب الثورة أية علاقة بما كان يحدث من فوضى منذ بداية وانتهاء "مؤتمر الحوار الوطني"، كل ما في الأمر أنهم أدوا واجبهم في "المؤتمر"، بمشاركة فاعلة، تجاه مستقبل يضمن لهم العزة، والكرامة، وأثبتوا أنهم شباب لن تضل الأجيال اليمنية بعدهم الطريق أبدًا.
جليًا، إن ما تبثه بعض وسائل الإعلام العربية ومنسوبي الأنظمة العميقة التي لا تهوى رياح التغيير سوى الإمعان في النيل من الشباب المغلوبين على أمرهم، غير مدركة سنن الله في خلقه، وأن ما فات ماضٍ لن يعود.
وكان الأولى بمنسوبي هذه الأنظمة العميقة الذين تفرق أعضاؤهم في سائر الأقطار، أن يحاسبوا أنفسهم، ويحكموا ضمائرهم، ويعيدوا أموال الشعوب المنهوبة، ويقدموا اعتذارهم عن ممارساتهم التي أوصلت البلدان العربية إلى ما هي عليه الآن من أوضاع اقتصادية متردية، ومآسٍ اجتماعية... الخ.
وعليه نؤكد أنه لا بد من أن تستكمل الثورات الشبابية أهدافها كافة، مهما كلفها الثمن من تضحيات.
خلاصة القول، كفى بكم تقليلًا بالشباب الذين أضاؤوا الطريق للتغيير، وإن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، أيها الناس اسمعوا، وعوا إن "قلب الأحمق في فمه، ولسان العاقل في قلبه، وتأكدوا أن الذين ولدوا في الزوابع، لا يهابون الأعاصير".
الذكرى السنوية الثالثة عشرة لثورات الربيع العربي 2011م
2024-02-12