بسمة في حياتنا وهبَّة نسيم غمرت أرواحنا لسنين، ثم مضت إلى بارئها، بعد معاناة طويلة مع المرض ومع الظروف المعيشية الصعبة. الدكتور عبدالدايم يحيى الحداد، صديق وزميل ورفيق، من تلك الوجوه التي زينت حياتنا بدماثة أخلاقها ونقاء سريرتها ورقي تعاملها، وبنضالها الوطني الطويل الصامت دون ضجيج ودون ادعاء. فارس من جيل يستحق أن تخلّد رموزه، التي طوى معظمها الموت، ويطوي كل يوم واحدًا ممن تبقوا من ذلك الجيل الأصيل، يقاومون أعاصير الحياة ونكباتها المتلاحقة.
الدكتور عبدالدايم يحيى الحداد
الدكتور عبدالدايم، عرفته في أواخر عام 1961م في القاهرة، عاصمة الأمة العربية حينذاك، عرفته وهو طالب في نهاية المرحلة الثانوية، تكررت زياراته لي وزملائي في شقتنا بحي العجوزة، في العمارة الملاصقة للعمارة التي كان يسكن فيها مع زملائه، سيف أحمد حيدر وعبدالجليل سلمان، وآخرين لم تعد تحضرني أسماؤهم. وقد اعتاد عبدالدايم أن يأتي مع رفيقه عبدالجليل سلمان، في زيارات يتفقدان فيها أحوالنا، نحن الطلاب القادمين حديثًا من عدن، محمد ناشر سيف (الدكتور) وعبدالغني عبدالقادر (عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني) وعبدالعزيز الشعبي (عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني) وأحمد قايد الصايدي. والأهم من تفقد أحوالنا هو العمل على استقطابنا إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان كلا العزيزين رحمهما الله قد انتظما فيه.
كان كل عضو في حزب من الأحزاب في ذلك الزمن الجميل يكلف باستقطاب عدد من الطلاب الجدد، القادمين من شمال الوطن وجنوبه، إلى القاهرة أو إلى المدينتين المصريتين الأخريين، اللتين كان الطلاب اليمنيون يدرسون فيهما (مدينة طنطا، التي أصبحت مقرًا للبعثة الطلابية التابعة لحكومة الشمال، ومدينة الإسكندرية). وما عدا البعثة الحكومية في مدينة طنطا، كان الطلاب القادمون إلى مصر كلهم تقريبًا من الحاصلين على منح دراسية من الحكومة المصرية، عن طريق بعض المنظمات اليمنية، كالاتحاد اليمني (كان امتدادًا لحزب الأحرار اليمنيين والجمعية اليمنية الكبرى) ونادي الشباب الثقافي، الواجهة الثقافية لفرع حركة القوميين العرب في الجنوب، الذي كان قد باشر نشاطه على يد مؤسسه الشهيد فيصل عبداللطيف الشعبي، ومعه كوكبة من الشباب المؤسس لفرع الحركة، كأساتذتنا في المعهد العلمي الإسلامي، علي أحمد ناصر السلَّامي، وجعفر علي عوض (وزير التربية والتعليم في حكومة الاستقلال في ما بعد)، ونور الدين قاسم، وسالم زين محمد، ومعهم طه أحمد مقبل وآخرون.
تكررت زيارات عبدالدايم وعبدالجليل سلمان لنا، كما تكررت زيارات آخرين من الطلاب المنتمين إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، ومنهم علوان سعيد الشيباني، الذي أصبح في ما بعد رجل أعمال وطنيًا معروفًا، وعوض أحمد جوهر (من منطقة العوالق في الجنوب). وأفلحت تلك الزيارات في استقطابنا، أربعتنا، محمد ناشر وعبدالغني وعبدالعزيز وأحمد قايد، إلى حزب البعث. وبدأت علاقاتنا بزوارنا تأخذ طابعًا آخر، أكثر جدية وانضباطًا ومشاركة في العمل الحزبي، الذي بلغ أوجه في تلك الفترة في القاهرة، رغم حظر العمل الحزبي رسميًا في مصر.
وشاءت الأقدار بعد ذلك أن يكون عبدالدايم واحدًا من عشرة طلاب حصلوا على منح دراسية إلى الجمهورية العربية السورية: علي نعمان عبدالله وغازي علوان ومحمد طاهر ومحمد ناشر سيف وعبدالدايم الحداد وطه النكّاع وسعيد الصوفي وعبدالملك درهم وعبدالرحمن الشيباني وأحمد قايد الصايدي.
وفي دمشق توطدت علاقتي بالفقيد عبدالدايم، وتشاركنا السكن، وتقاسمنا مع زملائنا الحلو والمر في ظروف معيشية بالغة الصعوبة. فلم تكن المنحة الدراسية في سوريا، كما اتضح بعد وصولنا دمشق، لم تكن سوى نصف منحة، يفترض أن تكمل الحكومة اليمنية النصف الآخر منها، وهو ما لم يحصل.
ثم فرقت بيننا خياراتنا الدراسية، فالتحقت بالكلية الحربية السورية وغادر عبدالدايم دمشق للدراسة الجامعية في المجر. والتقينا مجددًا بعد ذلك في صنعاء. حيث عمل في مركز الدراسات والبحوث اليمني، وواصل نشاطه الحزبي في صفوف حزب البعث، جنبًا إلى جنب مع نشاطه العلمي في مركز الدراسات.
قليلون ممن يمكن القول عنهم بأنهم لم يعرفوا في كل حياتهم الخصومات والعداوات والمماحكات السياسية وغير السياسية. وكان عبدالدايم واحدًا من هؤلاء. لا أتذكر أنه تشاجر يومًا مع أحد أو حمل ضغينة لأحد، أو حسد أحدًا على جاه أو منصب أو شهرة أو مال. كان نموذجًا من الناس النادرين الذين علوا في حياتهم على كل الصغائر التي تعلق بالإنسان عادة، فتنفر الآخرين منه، وتثير من حوله الخصومات وتورث الضغائن. كان، رحمه الله، بسمة دائمة ونسمة مريحة، تغمر من حولها بإحساس جميل لا يعرفه إلا من عرف عبدالدايم واقترب منه.
رحم الله فقيد اليمن الدكتور عبدالدايم الحداد، وأسكنه فسيح جناته، وعزاءً لأسرته وجميع أهله ورفاقه وزملائه ومحبيه، وعزاءً لنا ولليمن برمز من رموزنا الوطنية، العظيمة بإخلاصها، الشامخة ببساطتها وتواضعها، المتميزة بعفتها وطهارتها. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وداعًا عبدالدايم
2024-01-26