حملة الأربطة السوداء
> إلهام مانع
الأسود لون الحياة، هل تذكرون؟
حياة امرأة في شبه الجزيرة العربية.
حياة بلا ألوان، تغيب فيها البهجة، كما يُغيب الظلامُ النور.
حياة بلا حياة.
لا لون لا طعم لا رائحة. أية حياة حياتنا في شبه الجزيرة العربية؟
يقولون لها، للطفلة، للفتاة، للمرأة: "عيشي صاغرة، صامتة، مستكينة، متمسكنة، عيشي ثم أطيعي، وإياك أن تكوني.
"لا ترفعي صوتك، حذار من صوتك، خافي منه، كما تخافين من جسدك، إبلعي صوتك، فصوتك عورة، وحبذا لو قطعت لسانك كي لا نسمعه.
"عيشي بكماء، أنت والخرس سواء، خرساء في وجودك، مكبوتة في كيانك، كأنك لا شيء، فتلة، بعوضة، قشة، أو شيء، شيء نفعل به ما نشاء، نُحركه، نرفعه، نُنزله، نُزوجه، نمارس معه الجنس غصباً، ونضربه، ثم نطلقه، أو نقتله نحراً وهو حي، أو دفناً وهو ميت، ونلفه في سواد الخوف، سواد داخل سواد".
يكفنونها في سواد فكرهم ثم يناشدونها مبتهلين "حبذا لو دفنت نفسك حية!"، ويهزون رأسهم معجبين. يا الله، ما أغربهم.
"موتي. فحياتك موت".
وهي؟
هي لا تريد الصمت، تريد لسانها طويلاً، هل تسمعون، طويلاً، وتريد صوتها عالياً يفرقع بضحكاتها مرحاً. ولا تريد الموت والكفن، بل تريد الحياة، وتريد أن تحيا، تحيا بتعمد، كل لحظة، كل دقيقة، كل ثانية، تريدها حية، عامدة متعمدة، أن تحيا، كإنسان، له وجود، ويفخر بهذا الوجود. آه ما أجمل الحياة عندما نقدر على أن نعيشها.
لكنهم لا يأبهون لما تريد، بل يهمسون ليل نهار في أذنها: "أنت تابع، تابع، تابع، اسمعي وأطيعي، ولا تجادلي، إياك أن تجادلي، فالجدل رجس من عمل الشيطان، أطيعي، وكوني نكرة".
ويقولون لها: "حذار حذار من جسدك، هو والشيطان رديفان، إلعنيه صباح مساء، ثم ضمديه بالسواد، واخفيه عن العيون كي لا تدنسه النظرات، ملعون أيها الجسد، ملعونة أنت أيضا يا من تحملين هذا الجسد، هذا الرجس، حبذا لو مسخت كيانك فأصبحت أنت والظلام سواداً".
شرنقة، يخنقونها بالسواد كي لا تتنفس، كي لا ترى، كي لا تفكر، كي لا تقرر، كي لا تكون إنساناً.
"وجودك مصيبة وكذلك جسدك، فحبذا لو اخترت السواد حياة، حياة بلا لون، لونها أسود!".
وهي؟
هي تحب هذا الجسد، وتريد أن تحياه هو الآخر، وتكره أن تكفنه، تريد أن تمزق تلك الأربطة والأقمشة السوداء من على جسدها، وتُخرجه ملوناً زاهياً، مبتسماً وفخوراً. من قال إن خلق الله فيه ما يُخجل ويعيب؟ لا ترى في كيانها الأنثوي جريمة، ثم لا تعتبر الجمال خطيئة، وتصر أن تفكر، تصر أن تقرر، تصر أن تختار، تصر أن تكون هي هي، لا أحد غيرها، ولي أمرها، ولذا تتمرد. من قال إن التفكير خطيئة أيها البشر؟
لكنهم لا ييأسون، فيهسون من جديد "الله يقول إن السواد قدرك، الله يريد أن يدفنك حية، الله هو المذنب، فاقبلي بقرارات الله"، وينظمون الحياة وفقاً لرؤيتهم هذه، يقولون أن الله هو الذي صاغها، الله هو الذي وضعها، ومن جادل حدُّه السيف.
هل نلومها لو سمعت وأصاغت ثم لبت وأطاعت.
لكنها لا تصدق، أي والله لا تصدق. تُطيع قدراً وهي تقول: "آه كم من جرائم نرتكبها باسم الله؟". تحني رأسها قليلاً وهي تقول "من يصدق أن الله يقول هذا. رجال يقولون، ثم يقولون: الله هو الذي قال. أيُّ رب يكون لو قال ذلك حقاً؟ ربٌّ ظالم؟ سبحان الله ما أبجحهم".
الأسود لون حياتها. حياة بلا لون، حياة بلا إرادة.
لكن الأسود أيضا رمز للقوة، القوة لا غير.
رمز لقوتها. قوة المرأة عندما تتمرد.
قوة الصلد تخرج من صلب الصهد شهاباً.
لم أعرف لوناً أقوى منه، يخرج لسانه لمن حوله ويقول ها أنا، كما أنا، لست لوناً، لكن هل من لون يغلبني؟ هل جربتم مرة مزج السواد بغيره من الألوان؟
قوي هو.
وقوته في تفرده.
كذلك امرأتنا، امرأتنا القوية.
تلك التي عندما تتمرد تُفزع من حولها، فيسارعون إلى خنقها وكتم أنفاسها.
هل رأيتم كيف تمكنت الصحافية لبنى في السودان في إثارة أزمة تصدرت صحف العالم لأنها ببساطة رفضت أن تجاري قانوناً سخيفاً يمنع المرأة السودانية من ارتداء البنطال؟ لبنى تمردت، وقالت لا. لم تفعل أكثر من أن استجمعت شجاعتها وقالت "لا"، قانون كهذا ينتهك آدميتي يجب أن يُلغى، فأصبحت مثلاً ونموذجاً. تمردت. ولم تخف.
وامرأتنا القوية في السعودية فعلت الشيء نفسه يوم التاسع من نوفمبر الجاري.
الكاتبة والناشطة وجيهة الحويدر وزميلاتها من الناشطات السعوديات قلن أيضاً "لا"، قلنها في ذكرى الأربعين امرأة سعودية، الرائدات، اللاتي قررن في نفس اليوم قبل 20 عاماً أن يمارسن حقاً طبيعيا تمارسه كل النساء في كل أرجاء العالم، قدن سياراتهن علناً في شوارع الرياض. ولأنهن جرؤن، كان الثمن باهظا: قُبض عليهن، سُحبت جوازات سفرهن، وفقدن وظائفهن، والمخزي أن "أولياء أمورهن" اضطروا أن يتعهدوا بأن تُحسن "نساؤهن" السيرة بعد ذلك.
تلك الذكرى رمزية في دلالتها، لأنها تظهر واقع المرأة السعودية بصورة مختصرة: حتى لو كانت المرأة تنتمي إلى شريحة اجتماعية مثقفة أو اقتصادية مرتفعة، فإنها لحظة مواجهتها مع السلطات تتحول إلى "شيء يملكه رجلـ". رجل يتولى أمورها من يوم ولادتها إلى مماتها، رجل يقود سيارتها، رجل يزوجها، وآخر يتزوجها، والشيء ينتقل من يد رجل إلى رجل آخر".
وجيهة الحويدر وزميلاتها قررن أن مثل هذا الوضع ينتهك آدميتهن، وتمردن. قلن ببساطة "لا"، وعبرن عن موقفهن بأسلوب سلمي كله حب. لم يفعلن أكثر من أن ارتدين أربطة سوداء حول رسغهن، وناشدن غيرهن وغيرهم أن يفعلوا الشيء نفسه. وعندما فعلن ذلك، كن يدركن أنهن بأسلوبهن السلمي إنما يخاطبن الإنسان في من حولهن، حتى لو كان ضدهن. تماما كما فعل غاندي، تماما كما فعل مارتن لوثر كنج.
لم يخفن من اللعن والشتائم، ذاك قدر من يجرؤ على المطالبة بالتغيير.
لم يدارين وجوههن في السواد.
بل رفعن أيديهن بالرباط الأسود.
حياة بلا لون، لونها أسود.
وقوة تخرج من رحم التمرد، رمزها الأسود.
كم منا يقدر على ما تفعله وجيهة وزميلاتها من الناشطات السعوديات؟
عن نفسي ارتديت رباطاً أسود، وأرتديه إلى يومنا هذا، فالحملة بدأت في التاسع من نوفمبر الجاري، وهي مستمرة.
وابنتي، ابنة العاشرة، ارتدته أيضاً وأقنعت زميلاتها في المدرسة، تلميذات سويسرات في الصف الرابع الابتدائي، أقنعتهن أن يرتدين تلك الأربطة تضامناً مع أخواتهن في السعودية.
وأنا أدري أن ما أفعله رمزي مقابل ما تفعله وجيهة وزميلاتها من داخل المملكة.
لكن، تخيلوا لو أن كلا منا ارتدى رباطاً أسود تضامنا معهن، ألن تصل الرسالة إلى صاحبها؟
أحلام يقظة؟ بعضكم يبتسم من جديد.
وأنا بدوري أبتسم، وأرد: "نعم، لكن من حقنا أن نحلم".
[email protected]
حملة الأربطة السوداء
2009-11-24