في جحيم حرب الإبادة على غزة، والاجتياحات اليومية في الضفة الغربية من الجيش الإسرائيلي، وتمدد الاستيطان، طرحت أمريكا سؤال ما بعد اليوم التالي! وهو السؤال المطروح منذ العام ١٩٤٧، والقرار ١٨١ لا يعني غير التقسيم، ويتكرر عقب كل حرب.
ونضع اليوم تساؤلات أخرى:
ماذا بعد الانتفاضة الفلسطينية المسلحة في الضفة والقطاع؟
هل الدولتان حل؟
وماذا عن وضع فلسطينيي الداخل -أرض ١٩٤٨؟
وماذا عن حل لا يأخذ بعين الاعتبار وضعهم في ظل انتقاص المواطنة؟
وما هي رؤيتكم لما بعد حرب السابع من أكتوبر ٢٠٢٣؟
أسئلة طرحتها على قادة الأحزاب السياسية، وقادة الرأي في المجتمعين: المدني والأهلي والفاعليات السياسية وفي صفوف الشباب والمرأة في اليمن والمنطقة العربية.
وما دفعني لطرح هذه الأسئلة هو تسابق الدول الداعمة للحرب أو بالأحرى الأطراف الأساسيين في صنع أداة الحرب الدائمة -إسرائيل، منذ ١٩٤٨ وحتى اليوم.
وهنا أترك لأصحاب وصاحبات الرأي الإجابة، مع ملاحظة أن البعض أجاب على كل الأسئلة، واكتفى البعض بالإجابة على بعضها.
الشكر والامتنان للعزيز رئيس تحرير "النداء" الصحفي القدير سامي غالب، ولصحيفة "النداء" التي يتسع صدر صفحاتها دومًا لكل الآراء، والتي ستنشر تباعًا آراء النخبة اليمنية وردودها على الأسئلة.
تاليًا ردود وتوضيحات الأستاذ أحمد عبده سيف
وهو تربوي وباحث له العديد من الأبحاث والدراسات في مجالات مختلفة:
من اليقين عندي أن أسئلة مفتوحةً كهذه -على أهميتها- تستدعي استحضار جذور المشكلة وما ترتب عليها من مراحل ونتائج.. وذلك على أهميته صعب، ولا تتيحه مساحة الاستطلاع هذه، ومظلومية بهذا الحجم.
ولكن، ولأنه مطلوب إبداء رأي وتحديد موقف واستشراف مستقبل صراع هو في يقيني صراع وجود لا صراع حدود، وأن حسم هذا الصراع ووضع نهاية له تُعيد الحقوق لأصحابها، لن يكون ميسورًا، كونها حقوقًا غير قابلة للتصرف.. وبالتالي فإن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، ولأن الحق بغير القوة ضائع، وأمل السلام بغير إمكانية الدفاع عنه استسلام.. وقد أكدت الأحداث طوال مراحل الصراع صحة ذلك.
وعليه دعني أُذكر بأن جذور هذا الصراع استُنبتت على قاعدة سعي الاستعمار الأوروبي لاقتسام ما سموه "تركة الرجل العثماني المريض"، وحرصه على بسط السيطرة، ومسخ الهوية، ليتمكن من نهب الخيرات، واستغلال المقدرات، والحيلولة دون الأخذ بأسباب النهوض والتقدم لإبقاء الأمة متخلفة تابعة، وأسواقُها مفتوحة لمنتجاته ونزواته. وقد اقتضاه ذلك السعي لعقلنة التنافس بين قواه، ومنع حدوث الصدامات العسكرية.. وذلك ما حققه بالالتزام بمخرجات مؤتمر لندن عام 1907م، الذي شارك فيه رؤساء سبع وزارات أوروبية، باستثناء ألمانيا، والتي قضت بتضامن الجميع وسعيهم لزراعة كيان غريب في المنطقة يفصل شرقها عن غربها، ويمنع وحدتها، وأن يعمل على وأد كل فكرة أو محاولة توقظ الهوية أو تسعى للوحدة، وعلى أن يبقى ولاؤه المطلق للغرب.. وعليهم بمقابل ذلك أن يكفلوا للكيان الغريب الحماية والدعم المستمر، وإمداده بكل عوامل القوة التي تمكنه من أن يكون متفوقًا على جيرانه وأعدائه.
وقد تلقف زعماء الحركة الصهيونية ذلك، واستغلوا حاجة بريطانيا للمال إبان الحرب العالمية الأولى، فاستصدروا "وعد بلفور"، مقدمين أنفسهم كجماعة تحتاج لبناء كيان يلم الشتات اليهودي، وتلى ذلك اتفاقية سايكس بيكو، لتكريس التجزئة، ثم ما تلاها من سياسات ومؤامرات وتسهيلات لهجرة اليهود لبناء دولتهم العنصرية الإحلالية في فلسطين.
ولقد توارت أدوار البعض حينًا، وبرزت أدوار البعض الآخر، ومنها الولايات المتحدة وألمانيا (تحت دعاوى شتى)، وسعى الجميع إلى تمكين دولة الكيان الغاصب من امتلاك الخيار النووي، وفيهم من آثرهم على نفسه، كما حرصوا على دعمها في حروبها المختلفة، والتغطية على جرائمها، ومنع مساءلتها، والكيد لمن يعاديها.
ولنا في ما حدث أخيرًا من تسابق لنجدتها، ما يؤكد على استمرار الرعاية، حتى إن ألمانيا التي عانت من ابتزاز الصهاينة طوال عقود، كانت من أسرعهم مبادرة وأكثرهم تشددًا وحرصًا على الدعم بصورٍ أقل ما يُقال عنها إن الروح النازية قد تلبستهم من جديد.
ولقد تمكنت دولة الكيان العنصري، مع استمرار الدعم من الغرب الاستعماري، ومؤامرات الرجعية العربية، من التآمر على محاولة التوحد العربي، وإفشال دور الجامعة العربية، ومنع تنفيذ ما تتفق عليه قيادات الأنظمة العربية، ومنها -على سبيل المثال- توحيد التعليم العربي، اتفاقية الدفاع المشترك، اتفاقية السوق العربية المشتركة وغيرها، بل امتدت أيضًا المؤامرات والاستهدافات إلى المستوى القُطري، حيث نُفذت ومازالت مؤامراتٌ كثيرة، وسعت لوأد محاولات التنمية، وبذر بذور الفرقة وتمزيق النسيج الاجتماعي للمجتمع الواحد... الخ.
ولم يكن كل ما تقدم بعيدًا عن المقاصد الصهيونية والاستعمارية في تحقيق التمكين اللازم ليستمر دورها المشؤوم، وبالتالي فلئن كان سعيها الحثيث لابتلاع فلسطين هدفًا استراتيجيًا لم تغفل عن تحقيقه بكل السبل، وأيًا كانت الأثمان والنتائج.. فإن محاولة تمدد الكيان خارج فلسطين المحتلة لم ولن تتوقف، وذلك ما يعطي دليلًا آخر على رفضه تحديد حدود جغرافية وسياسية ما.
إن ما حدث في السابع من أكتوبر لم يأتِ من فراغ، ولم يكن منقطعًا عما سبقه، كما لن يشكل قطيعةً مع ما سيأتي بعده.
كما أن صفاقة التغطية والدعم الغربي لم يأتِ التزامًا مع ما سبق التعهد به منذ أكثر من قرن (كما يبدو للوهلة الأولى)، بل لأنه أيضًا ارتكز على سطوة صهيونية سيطرت منذ عقود طويلة على الثقافة الاجتماعية في المجتمعات الغربية، وفيها يتجلى احتكار الديانات السامية، وحصرها باليهودية والمسيحية، وإنكار غيرها، واعتبار الدين الإسلامي دينًا وضعيًا، وأن إسرائيل واحة ديمقراطية في وسط صحراء البداوة العربية، وأن رعايتها وحمايتها واجب أخلاقي... وغيرها، وارتكزت أيضًا على إعادة تظهير حملاتهم الاستعمارية القذرة، بأنها كانت دورًا إنسانيًا وتضحيةً للأخذ بأيدي الشعوب المتخلفة على طريق التمدن، دونما إشارة إلى ما نال هذه الشعوب من اضطهاد ونهب للخيرات.
وجاءت نتيجة إصابتهم ودولة الكيان بالصدمة، فكان زحف الأساطيل، وتواصل الزيارات، محاولة للحيلولة دون الانهيار. وجاءت نتيجة حالة استرخاء وثقة من أن الكيان لن يُغلب بعد كل جولات الصراع التي حدثت، وإنكار هزائمه من المقاومة، ثم كانت المفاجأة، وجاءت في وقت ظن فيه الجميع أن قضية فلسطين تم تناسيها، ولم يبقَ إلا تصفية ما تبقى من آثارها. وجاءت نتيجة مفاجئة للغرب، باعتبارها المعركة الأولى التي تبدأها المقاومة وداخل الأراضي المحتلة، وحصدها للأهداف المتعددة (عسكريًا، أمنيًا، معلوماتيًا، معركة الصورة، اقتصاديًا، وثقافيًا) منذ الساعات الأولى للمعركة.
ومن الجهة الأخرى، فقد جاء الحدث كزلزال مازالت توابعه تترى حتى اليوم، ولن تتوقف في الغد القريب، ومنها:
- ردًا على حالة استرخاء وفشل النظام الإقليمي العربي، ورفضه رعاية وتعظيم انتصارات المقاومة منذ عام 2000 وما تلاها حتى الأمس القريب، ودل على أن بمقدور فئة قليلة من أبناء الأمة أن تصنع نصرًا رغم كل الإعاقات والحصار.
- دلت توابعه على ممكنات وجدوى الولوج إلى مرحلة المقاومة بعيدًا عن تبني ورعاية النظام الرسمي العربي لها، بل بعيدًا عن إرادتها.
- أكدت على أن تمادي صلف المحتل بالقمع والتدمير والتهجير ومصادرة الأرض والتنكر للوعود والغلو بالاضطهاد ومصادرة الحقوق وسلب الحريات، يعجل بتفجير الغضب، وبتعظيم القدرة على إيلامه، بدليل ما حدث في سبعة أكتوبر.
- عززت ارتداداته القناعات بالحاجة للأخذ بخيار المقاومة بعد تحقيق نجاحات متصلة بدأتها المقاومة الإسلامية في لبنان ثم في غزة حتى اليوم، وبالتالي فخيار المقاومة بات مطلوبًا ليس للمواجهة المباشرة مع أعداء الأمة فحسب، بل لحماية ما تراكمه كل أفعال المقاومة وثقافتها بمختلف الصور والمستويات، كما يمكن اعتمادها وسيلة لمواجهة جور الأنظمة المتسلطة سواء بصورها الناعمة أو الخشنة.
- أكدت ارتداداته أن آثاره ونتائجه ستمتد، وتفرض نفسها على مستقبل الصراع، وعلى تحقيق ضربات موجعة لمجتمع العدو ستظل تعكس آثارها على مختلف مجالات حياته.
- أكدت المعركة على ولوج مرحلة جديدة في الصراع تكون ميادينها داخل الأراضي المحتلة ذاتها.
أما عن مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، وما يدور حول حل الدولتين، فاليقين لديّ أنه لن يكون حلًا، لأسباب كثيرة، منها:
1. أن دعوة حل الدولتين التي عادت للظهور هذه الأيام، ما هي إلا محاولة لامتصاص غضب وتبديد احتقان وتمييع هبة، بعد أن تعمدت الدول الراعية تيئيس الناس من إمكانية حدوث ذلك منذ عقود.
2. حل الدولتين ليس دعوة جديدة، فلقد بدأ بدعوة بريطانية في ثلاثينيات القرن الماضي، وفشلت، ثم بتوصية الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 47م، وفشلت، ثم باتفاقية أوسلو السيئة الذكر، ولم تتحقق برغم كل التنازلات، ثم بالمبادرة العربية عام 2002م، وفشلت.
3. هي غير ممكنة، لأنها من جانب الكيان الغاصب لا محل لها في قناعاتهم، وتتناقض مع عقيدتهم الصهيونية وأحلامهم الموهومة.. وقد تجلى رفضهم لها في ما سبق السابع من أكتوبر بتصريحات فجة عديدة، ولكون فلسطين لديهم جزءًا من مملكة لا بد أن تمتد من الفرات إلى النيل، كما أن دولة الكيان حتى اليوم مازالت بدون دستور ولا حدود معلنة، ولعل عملة الشيكل تقدم دليلًا آخر مضافًا.
وهي من جانب الحقوق الفلسطينية والعربية سواء من وجهة نظر من يتقبلون الفكرة، فإنها غير قابلة للتحقق، لأسباب منها عدم نجاح المبادرات السابقة مع غياب إرادة دولية تساعد على فرضها كحل. ثم إن لديهم شكًا في نوع الدولة التي سيسمح بقيامها وسيادتها، وكيف سيؤمن جانب الكيان الغاصب المستقوي بالسلاح والرعاية الغربية، بخاصة وأن تعامله مع السلطة الفلسطينية حاليًا تقدم دليلًا دامغًا على تنكره لأوسلو وما ترتب عليها، كما تجلى باستباحة أراضي السلطة مع إنكار سيادتها عليها.
ومن ناحية من يرفضون الفكرة، فهي ترتكز على قناعة أن الصراع صراع وجود، وأن حق استعادتها لن يكون ممكنًا إلا بامتلاك أسباب القوة التي تجبر العدو على إعادة الحقوق لأهلها. كما أن أمل السلام بغير إمكانية الدفاع عنه لن يكون إلا استسلامًا.
ثم لأن حل الدولتين لن يضمن استعادة حقوق اغتصبت، وإنصاف من هُجروا وشُردوا وارتكبت بحقهم المجازر، كما أنها لن تضمن حقوق فلسطينيي 48، وأين سيكون مستقبلهم، وكيف؟
ويبقى الحديث عن الرؤية يرتكز ويستدعي:
1. استثمار عودة القضية إلى صدارة اهتمامات الرأي العام العالمي، بعد أن تم تغييبها منذ عقود، والحفاظ على بقائها في صدارة اهتمامات المجتمع الدولي.
2. استثمار محاولة السعي لإعادة تشكيل النظام الأممي، وما سيفرزه من نتائج متوقعة على كل الصعد، ومنها الانتصاف للعدالة في فلسطين.
3. بمقدار استمرار الصمود وتحقيق انتصار بالنقاط وإكراه العدو الغاصب على الوقف الكامل لإطلاق النار، وتعزز الأهداف التي لا بد من استثمارها في إطار الرؤية.
4. لا بد من استمرار استثمار حرب الصورة ودحض السرديات الصهيونية، والسعي لإعادة تشكيل اهتمامات الرأي العام عربيًا وعالميًا، وبخاصة في الغرب، وبمقدار ما سيحقق من نجاحات يبنى عليها على طريق تحرير الوعي المجتمعي الغربي من أسر السرديات الصهيونية، فإن لذلك متطلبات لا بد من تحقيقها على مستوى علاقات الفصائل والقوى الفلسطينية مع بعضها، وتبني الرؤى المناسبة. كما أن ذلك يتطلب تضافر جهود كل القوى والأحزاب العربية المساندة والمؤمنة بعدالة القضية.
5. عدم الخوف من ممكنات لجوء المحتل الصهيوني إلى استخدام الأسلحة القذرة خشية من نتائجها عالميًا من جهة، ثم لأن استخدامه لها سيؤثر أيضًا على مجتمعه بصور مباشرة بيولوجيًا وسيكولوجيًا.
6. استمرار تنامي ظاهرة الهجرة الصهيونية المعاكسة، وتحسين استثمارها، سيعزز فرص تنامي المقاومة، وبخاصة إذا ما تفجرت في الضفة الغربية وفي مجتمع 48م.
7. سيكون مطلوبًا بالضرورة من الفصائل والقوى الفلسطينية، ومن سلطة رام الله إحداث المراجعات اللازمة لتعزيز وحدة الصف والهدف في إطار مجتمع مأسور ومتنوع دينيًا ومذهبيًا وثقافيًا، والتوافق على رؤى وبرامج التحرير ومتطلباتهما، كما سيكون ذلك مطلوبًا لتحقيق الانفتاح المطلوب مع القوى والأحزاب السياسية العربية وغيرها المؤمنة بعدالة القضية.
8. سيكون محتمًا على الأدوات السياسية والقوى والنقابات المحسوبة على قوى الحداثة، والساعية لبناء مجتمع المواطنة، أن تعيد تقييم أداءاتها وإعادة إنتاج برامجها وخطاباتها، لتتمكن من تعزيز علاقاتها البينية وتقاربها مع قوى المقاومة بمختلف فصائلها.
9. لا بد للجميع من السعي للضغط على الأنظمة الرسمية العربية لإعادة تموضعها، أو للسعي لتغييرها بما يساعد على تحقيق أهداف الأمة.
10. لا بد من إعادة إنتاج لوبيات إعلامية، ثقافية، سياسية، تمتلك القدرة على التأثير في الثقافات المجتمعية الأخرى، وإعادة تشكيل وتوجيه اهتمامات الرأي العام.
11. الحرص على تعميق الانقسامات داخل المجتمع الغاصب، وإعادة استثمارها، مع بناء علاقات مع طوائف يهودية ترفض دولة الكيان، كجماعة "الماجناكارتا".