الاستعمار الذي غرب نجمه في القرن العشرين، يعود، أو بالأحرى مازال حاضرًا في إفريقيا، وفي العديد من بلداننا العربية، وبالأخص في فلسطين المحتلة.
الاستعمار الذي توارى كوجود عسكري ظل حاضرًا سياسيًا واقتصاديًا، واحتفظ بقواعد عسكرية، وبالأخص قاعدته الكبرى (دولة إسرائيل).
منذ التأسيس 1948، مثلت إسرائيل فصل المشرق العربي عن المغرب العربي، ومثلت الحارس للمصالح الاستعمارية، وهي احتلال استيطاني قائم على نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)، والكيان العدواني المحتل لفلسطين، والمعادي للأمة العربية كلها.
حرصت أمريكا -الحامي الأول- وأوروبا الاستعمارية على تفوق إسرائيل العسكري على كل الدول العربية مجتمعة، وامتلاك السلاح النووي، وجعل المنطقة كلها تحت التهديد المستمر.
علاقات الأنظمة التابعة لأمريكا، والحكام العرب الأصدقاء، تتحدد بمدى القرب أو البعد من إسرائيل، وفرض التطبيع على الكثير من هذه الأنظمة، أما الزبائن الجدد الذين يريدون التماس بركات البيت الأبيض، فلا بد من المرور بتل أبيب، وقبول إسرائيل أولًا، والتأكد من الصدق والإخلاص.
ما يجري في غزة جريمة حرب، وضد الإنسانية، وإبادة، وأرض محروقة، وتشريد شعب.
إسرائيل، وعلى مدى أكثر من ثلثي قرن، حامية للمصالح الاستعمارية، ولكن هبة غزة في السابع من أكتوبر أثبتت حاجتها إلى الحماية، وحضور البوارج، وحاملات الطائرات الأمريكية، وبعض الأوروبية، والمدد العسكري الأمريكي يؤكد ذلك.
حرب الإبادة لفلسطين غزة، وتدمير المساكن، والمدارس والكنائس والمساجد والمستشفيات، والحصار المطبق لسكان غزة، ومنع الماء عنهم والغذاء والدواء والمحروقات، وإرغامهم في الشمال على الفرار إلى الجنوب، وقتلهم في الطرقات، أو في المناطق غير المسكونة في الجنوب، جرائم حرب؛ فأبناء الشمال والجنوب والضفة الغربية كلهم مهددون بالإبادة.
الأمريكان والأوربيون قد أطلقوا يد إسرائيل في أن تتصرف كما تريد، ولكن الاجتياح لايزال معاقًا رغم الحشد غير المسبوق، وتدمير أحياء عديدة من المدينة، وتهجير ما يقرب من مليون،
الجيش الأمريكي يحتشد في المنطقة من حول غزة دعمًا لإسرائيل، وحماية اجتياح إسرائيل لغزة، وقد عجزت عن ذلك مرات سابقة، ولكن الحشد هذه المرة كبير، ويمهد لهذا الاجتياح بتدمير المدينة المحاصرة لستة عشر عامًا، وحرمانها من الغذاء والماء والدواء والوقود، ويشارك الجيش الأمريكي في القيادة والتخطيط والاستخبارات، والحضور المكثف في البر والبحر من البوارج وحاملات الطائرات والأساطيل الأمريكية والبريطانية والألمانية، ويرغم سكان غزة على مغادرة بيوتهم تحت قصف الإف 16، والصواريخ، ويلقى على المدينة المحاصرة والجائعة من القنابل ما يزن ربع قنبلة نووية، وخمسة آلاف طن من المواد المتفجرة بما فيها المحرمة دوليًا.
الأمريكان والأوربيون قد أطلقوا يد إسرائيل في أن تتصرف كما تريد، ولكن الاجتياح لايزال معاقًا رغم الحشد غير المسبوق، وتدمير أحياء عديدة من المدينة، وتهجير ما يقرب من مليون، وإبادة أسر بأكملها، ووصول القتلى إلى أكثر من أربعة آلاف وثلاثمائة وخمسة وثمانين ويزداد لحظيًا، والجرحى أكثر من اثني عشر ألفًا يزدادون باستمرار، ويقتل كل ساعة خمسة عشر طفلًا، ومعظم القتلى من النساء والأطفال، وهناك مئات وربما آلاف تحت الأنقاض، والسؤال الفاجع والمفجوع: ماذا بعد؟
فالمجلس العسكري يقر الاجتياح، ويقره السياسيون في حكومة الطوارئ، وتعلن عن قربه وزارة الدفاع، ونتنياهو كل يوم، ربما كان البنتاجون، وقادة الجيش الإسرائيلي هم الأكثر إدراكًا للحالة؛ فتجربة الجيش الإسرائيلي غير مرة مريرة وخائبة، ثم إن وجود الأسرى، وموقف أسرهم، والرأي العام الإسرائيلي لا بد من أن يؤخذ بالحسبان، ثم إن ما يحصل على جبهة الشمال، وداخل الضفة الغربية، لا يمكن تجاهله، وموقف مصر والأردن الرافض للتهجير والحرب، مهم، ثم موقف إيران الداعم للمقاومة حاضر بقوة.
تصاعد الاحتجاجات حتى في أمريكا والدول الأوروبية الداعمة لإسرائيل، يؤخذ بالاعتبار، وموقف روسيا والصين وازن، وقبل ذلك وبعده المساومات السياسية من حول قبول التهجير، وإطلاق الأسرى، ووقف الحرب، وإطلاق المعتقلين السياسيين من السجون الإسرائيلية، وأخيرًا ترتيبات ما بعد الحرب؛ فما بعد الحرب ليس كما قبلها.
الحرب قائمة ومتصاعدة؛ هذا واقع الحال، وقد تستمر وتتصاعد، وهذا احتمال وارد أيضًا. القيادة اليمينية الأشد تطرفًا، والمرفوضة شعبيًا، هي الأكثر احتياجًا وتعطشًا للحرب، ورئيس وزرائها هارب من المحاكمة.
الدعم الأمريكي والأوروبي يغريها ويدفعها ويشجعها على الاجتياح، كما أن إسرائيل لا تهتم للقرارات الأممية، ولا للإدانات الدولية، وهدفها الرئيس طرد الشعب الفلسطيني من أرضه، ولو أدى إلى تدمير المدن، وتقتيل مئات الآلاف؛ فما تحسب له الحساب هو القتل في صفوف جيشها وشعبها؛ لأنه يضعها أمام المساءلة الهاربة منها.
وجود الأسرى، ومخاطر الاجتياح، والمخاطر المحدقة، كلها تفتح باب الميل للمساومة، والضغط بالأمريكان والأوروبيين وبعض العرب إلى حلول آنية ومؤقتة، ويبقى الاجتياح حاضرًا بقوة، وتدمير المدينة يمهد الطريق لحصار المدينة والاجتياح، ولكن الاجتياح لن يكون نزهة أو سهلًا، وإسرائيل حروبها دائمًا خاطفة وقليلة الخسائر، خصوصًا في حروبها مع الأنظمة العربية.
تمنع إسرائيل الماء والغذاء والدواء والوقود عن مليونين ونصف فلسطيني، وتقتل أكثر من أربعة آلاف حتى الآن، واثني عشر جريحًا، غير القتلى والجرحى والمدمرة مدنهم وأحياؤهم ومنازلهم في الضفة الغربية، وتهان الكنائس، ويدنس ويستباح الأقصى، وتزداد أعداد القتلى والجرحى والتشريد، وتدمير المنازل لحظيًا، وتصمت المكنة الإعلامية الغربية صمت القبور عن هذه الجرائم، وتزداد المطالبة بالإفراج عن الأسرى، وهو مطلب حق وإنساني أيضًا، ولكن ماذا عن شعب أسير على مدى أكثر من سبعين عامًا محتلة أرضه، مستباحة دماء أبنائه، نصفه في الشتات خارج وطنه، والنصف الآخر مشرد داخل وطنه مقموع تمارس ضده أبشع ألوان التمييز العرقي، والفصل العنصري، وطغيان استعمار استيطاني واضطهاد لا نظير له، ويتهم بالإرهاب من قبل الإرهاب المصنوع والمخلوق (الكيان الصهيوني)، ومن قبل الإرهاب الخالق والصانع (أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا).
عبر كل حروب المستعمرين منذ القرن السابع عشر، لم يقم المستعمِر (بكسر الميم) بطرد الشعب المستعمَر (بفتح الميم)، والاستثناء أمريكا، وأستراليا في تقتيل وتشريد الهنود الحمر، وهو ما تقوم به دولة الاستيطان والفصل العنصري إسرائيل في فلسطين.
مائة وتسعة وتسعون أسيرًا في غزة، أشعلت حرب إبادة وضد الإنسانية، ولقيت الحرب تأييدًا مطلقًا من أمريكا، والاستعمار الغربي، مع حضور القوة الحربية الأمريكية والأوروبية فائقة القدرة، وهناك آلاف من الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية لعشرات السنين، ويقتل كل يوم مئات من أبناء الضفة الغربية من كل الاتجاهات، ويختطفون ويشردون من مدنهم وقراهم، وتحرق مزارعهم، وتدمر ديارهم؛ فأين الديمقراطية وحقوق الإنسان؟!