نظرة فاحصة حول مشروع السد:
إن مشروع سد الألفية (سد النهضة) أو ما بات يعرف اختصارًا بـ"GERO"، تم البدء في إنشائه في أبريل 2011م، وإن الهدف من بنائه هو توليد الطاقة الكهرومائية في "إثيوبيا" و"الدول المجاورة"، ومنذ الكشف عن تصميم "إثيوبيا" لبناء السد بعد موافقة رئيس الوزراء الإثيوبي
سد النهضة (شبكات التواصل)
"ملس زيناوي"، على تصميمات السد، ليكون بارتفاع 145 مترًا، وبطول 1800 متر، مع خزان خلف السد سعته 63 إلى 74 مليار م3 من المياه، ما يعادل مرة ونصف تدفق "النيل الأزرق" سنويًا، وبتكلفة مبلغ 4.8 مليار دولار، بتمويل محلي، وبإمكانية توليد طاقة تصل إلى 6 آلاف ميغاوات،
أي نحو ثلاثة أمثال الطاقة الكهربائية المولدة من المحطة الكهرومائية للسد العالي في مصر، ويقع على مسافة نحو 40 كيلومترًا من حدود "شمال السودان"... وقد تم منح شركة "ساليني" الإيطالية عقد بناء السد، بالشراكة مع الشركة الإثيوبية للكهرباء والطاقة، وشركة المعادن التي يديرها الجيش، بالإضافة إلى شركة "METEC" للأعمال الكهربائية والميكانيكية.. كما تعاقدت الحكومة مع شركة "الستوم" الفرنسية في يناير 2012م، لتوريد التوربينات، والمولدات الكهربائية للمشروع، بقيمة 250 مليون يورو، على أن يبدأ العمل في نهاية 2013م.. وستقوم شركة "الستوم" بالتزويد، والإشراف على تركيب جميع المعدات الكهروميكانيكية للمحطة، بما في ذلك 8 توربينات بقدرة 375 ميغاوات، و8 مولدات للمرحلة الأولى، ويشمل العقد أيضًا أعمال الهندسة، ومحطة لتوليد الكهرباء.
أ. الخطوات التي تم على أساسها بناء السد:
سد النهضة (AFP )
إن خطط "إثيوبيا" لبناء "سدود" على "النيل الأزرق"، لم تكن وليدة اليوم، وإنما على سبيل المثال تعود إلى عام 1927م، حيث أبرمت "إثيوبيا" اتفاقًا مع شركة "أمريكية" على أساس قيام عدد من المهندسين والخبراء بزيارة بحيرة "تانا" منبع النيل الأزرق، وعمل دراسة جدوى لبناء سد هناك.
قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإجراء مسح لحوض النيل الأزرق خلال هذه الفترة (1956-1964م)، واقترحت أربعة "مواقع" لبناء محطة للطاقة الكهرومائية المحتملة على النهر، والموقع الحالي هو واحد من هؤلاء:
- عام 1962م، قام فريق هندسة ألماني بإجراء المزيد من الدراسات للمياه في حوض "النيل الأزرق"، أو ما يطلق عليه باللهجة المحلية "أباي".
- عام 2008م، قامت الحكومة الإثيوبية بإجراء دراسات جدوى لاستغلال منطقة حوض النيل الشرقية في 3 مواقع تحت رعاية "مبادرة حوض النيل".. وأكدت ملاءمة الموقع الحالي للمشروع، وبموافقة ودعم مصري، في إمداد الطاقة تحت مسمى توليد الطاقة الكهرومائية، وتعزيز التجارة البينية الإقليمية.
- في ديسمبر 2008م، أرسل السيد محمود محيي الدين، وزير الاستثمار آنذاك، رسالة إلى البنك الدولي، يطلب فيها مخاطبة المانحين للمساهمة في "تنفيذ مشروع السد"، تحت رعاية "مبادرة حوض النيل"، ونيابة عن بلدان حوض النيل الشرقية (مصر، إثيوبيا، السودان).
- في نفس العام 2008م أيضًا، وبتكليف من البنك الدولي، تم إجراء دراسة استطلاعية مستقلة، شاركت فيها "مصر" بدور نشط.. وأكدت هذه الدراسة جدوى المشروع متعدد الأغراض، بما يعود بالنفع للدول الثلاث.
- أبريل 2011م، تم البدء في بناء السد بموافقة رئيس الوزراء الإثيوبي "ملس زيناوي" الذي وافته المنية في أغسطس 2011م، في "بروكسل"، إثر مرض عضال، بعد توضيح موقف إثيوبيا الرسمي إلى الحكومة المصرية حول إقرار الحكومة والبرلمان الإثيوبي إنشاء السد.
ب. سلبيات إنشاء "سد النهضة" وفقاَ لسياسيين وخبراء ومراقبين مصريين:
خبير المياه العالمى الدكتور مغاورى شحاتة(شبكات التواصل)
أما في ما يخص سلبيات إنشاء "سد النهضة"، فقد أوضح الدكتور شحاتة مغاوري، خبير مياه مصري، أنه عندما صمم هذا السدد في عام 1964م، كان مقدرًا أن يتم حجز 11 مليار م3، وكانت له آثار سلبية في نفس الوقت، كما كانت هناك تحذيرات من هذه الآثار على الوضع البيئي في هذه المنطقة من حوض نهر النيل، ويتساءل حول آثاره السلبية الكبيرة عندما يصل التخزين إلى 74 مليار م3، على حساب ارتفاعه الكبير، وبحيراته الممتدة، مشيرًا إلى زيادة سعته 7 أضعاف عما كان مخططًا ومصممًا عليه بواسطة خبراء أمريكيين في مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي، في سنة 1964م.. وهناك أيضًا -حسب رأيه- وجوب عدم إنشاء السد، حيث إن معدل الأمان فيه لا يتجاوز 1.5%، والتوضيح أن معدل الخطر زاد بازدياد معدل الارتفاع، وكمية المياه المخزنة في بحيرة السد، وثقل جسم السد ذاته، بمعنى أن مصر أصبحت أمام خطر داهم ويجب عدم الصمت أمامه، لافتًا إلى أن الخطورة البالغة تتمثل في أن السد منشأ على هضبة بازلتية.. وهي "صخور صلبة" تستجيب للمخرجات الزلزالية، وفي الوقت نفسه "هشة"، بحيث تتم تعريتها عندما تسقط عليها كميات مياه لفترات طويلة، وهنا خاصتان "الصلابة" و"سهلة التعرية"، بمعنى تآكل سطحها تحت وطأة حركة المياه.. إذن، فالسد حسب الدكتور مغاوري، معرض للانهيار.. وإن حدث ذلك يكون تأثيره على "السودان" مثلما "تأكل النار الهشيم"، وفي ظرف 6 ساعات ممكن أن يصل إلى "بحيرة السد العالي".. وهذا أشد الأخطار على كل ما سيخلفه من أخطار، لكن لا يمكن الجزم بميعاد حدوثه، ولا أحد يعلم متى؟ موضحًا أنه يتم قياس عامل الخطر بنقص كمية الأمطار، أو زيادتها، كما يتم، في الوقت نفسه، صناعة قنوات تحويل.
ويشير مراقبون مصريون إلى أن سدًا بهذه السعة الكبيرة، وهذا الارتفاع المبالغ فيه، في المنطقة المذكورة أعلاه بالتحديد (40كم من حدود "السودان")، لا بد أن يصل إلى السعة والتخزين المطلوب، والارتفاع المطلوب، لإدارة التوربينات.. ويتطلب ذلك عددًا من السنوات لتخزين المياه.. وفي حال تخزين 36 مليار م3 لثلاث سنوات، والتي تعد نصف الكمية لتخزين المياه في السد، فمن المؤكد أن ما سيحتجز سنويًا 12 مليار م3 لـ6 أعوام.. كما أن حجز حوالي 9 مليارات م3 من المياه، سيؤثر على 1.5 مليون فدان من الأراضي المزروعة، وسينعكس ذلك على ملايين الأسر المصرية، محملين المسؤولية على الحكومات المصرية المتعاقبة منذُ أربعة عقود، التي لم تحسن التفاوض في مسألة المياه مع دول حوض النيل وبالأخص "إثيوبيا"، بل غابت عن بعدها الأمني القومي الاستراتيجي إفريقيًا وعربيًا، واتجهت إلى خارج محيطها.
ولا بد من توضيح الخطر المحدق على تنفيذ مشروع "سد النهضة" على حياة المصريين، إقليميًا ودوليًا، منتقدين في الوقت نفسه التواطؤ الدولي، والإقليمي المساند لـ"إثيوبيا" في أن تكون هي صاحبة الرؤية الاستراتيجية، والمهيمنة في محيطها.
وفي السياق ذاته، أرجأ رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل "ملس زيناوي"، تصديق البرلمان على اتفاق الإطار التعاوني لحوض النيل، إلى أن تنتخب مصر حكومة جديدة.. وقال "بيركت سيمون"، المتحدث باسم الحكومة الإثيوبية، بأن "غالبية دول المنبع صدقت عليها من خلال برلماناتها.. وأخرنا التصديق كبادرة حسن نوايا للشعب المصري، إلى أن تم تشكيل حكومة منتخبة"، وأضاف: "موقفنا ثابت بشأن السدود.. عازمون على استكمال مشروعاتنا".
وقال المتحدث باسم الحكومة الإثيوبية "شمليدس كيمال"، في وقت لاحق، إن البرلمان صادق بالإجماع على اتفاقية "عنتيبي"، وتحويلها إلى قانون داخلي: "وقد سبق إقرار الاتفاقية إعلان "إثيوبيا" عن بدء العمل على بناء سد بتكلفة تبلغ 4.2 إلى 4.8 مليار دولار، بغرض توليد الكهرباء، رغم معارضة "مصر"، ويفترض أن تنتهي أولى مراحل بناء سد "النهضة" بعد ثلاث سنوات، مع قدرة على توليد 700 ميغاوات من الكهرباء.. وعند استكمال إنشائه سيولد السد 6 آلاف ميغاوات.
ويردد المسؤولون الإثيوبيون أن الحكومة منفتحة على المحادثات، لكن ليس لديها أية نية لتعليق بناء السد، وقال متحدث باسم وزارة الشؤون الخارجية: "إن المحادثات مع مصر تتفق مع مصلحة إثيوبيا".
قال رئيس الوزراء الإثيوبي "هيلا ماريام ديسالين" الذي خلف الرئيس السابق "مليس زيناوي"، إن إعلان مصر الحرب على بلاده سيكون "أشبه بالجنون"، مؤكدًا تصميم بلاده على المضي قدمًا في بناء السد رغم موقف القاهرة.. ووصف ديسالين تصريحات السياسيين المصريين بأنها استفزازية.. ورأى أن إثيوبيا أصبحت ملاذًا للمتصارعين في مصر لمواجهة أزماتهم الداخلية، وشدد رئيس الوزراء في الوقت نفسه على أن أديس أبابا مازالت تتمسك بالحوار والتفاوض من أجل مصلحة الشعبين، معتبرًا أن السد لن يلحق أي أضرار بدولتي المصب (مصر، والسودان).
من ناحية أخرى، أعلن الأمين العام للحركة الشعبية في جنوب السودان "باقان أموم"، عن عزم بلاده الانضمام للاتفاقية الإطارية لتقسيم مياه النيل، المعروفة بـ"عنتيبي" المدينة الأوغندية التي وُقعت فيها الاتفاقية من قبل ست من دول المنبع، وهي "إثيوبيا، بوروندي، كينيا، رواندا، تنزانيا، وأوغندا".
وأكد "باقان أموم" دعم بلاده لبناء سد "النهضة" الإثيوبي، وطالبت "مصر" و"إثيوبيا" بالحوار والتعاون المشترك من أجل تجاوز خلافاتهما، مشيرًا إلى أن المياه ليست ملكًا لأحد، بل هي شراكة بين دول حوض النيل كافة.
ومن منطلق ما ورد أعلاه، يتبين أن غالبية دول منبع النيل قد صدقت في برلماناتها على الاتفاق الإطاري التعاوني لدول حوض النيل.. كما أعلنت "جمهورية الكونغو الديمقراطية" أيضًا أنها تعتزم التوقيع على المعاهدة.
وفي المقابل، شدد الخبراء والمسؤولون المصريون على أنه لا توجد دراسات وإحصاءات كافية من الجانب الإثيوبي على مشروع سد "النهضة" بأنه لن يؤثر على حصة مصر من مياه النيل.. واستمرت المشاورات المصرية مع الجانب الإثيوبي جارية، وتحديدًا في الفترة التي أعقبت ثورة الربيع العربي في مصر، 25 يناير 2011م، على أن تتوصل مصر مع إثيوبيا إلى تسوية ترضي الجانبين على قاعدة "لا ضرر ولا ضرار"، وهنالك سبل كثيرة في هذا الصدد تؤدي إلى رفع حصة مصر من مياه نهر النيل، وذلك بإيجاد خطة شاملة لدول حوض النيل للاستفادة من المياه المهدرة وضياعها في البخر في فصل الصيف، وكذا في المستنقعات الشاسعة في دولة جنوب السودان.
وللإحاطة، فإن "دولة جنوب السودان" تعد ممرًا مائيًا بامتياز، وتغزر فيها الأمطار، كما تفتقر في الوقت نفسه إلى أبسط مقومات البنى الأساسية.
من الملاحظ أنه لم يصدر عن مسؤوليها وبشكل قاطع أي موقف بشأن بناء سد النهضة وتأثيره سلبًا أو إيجابًا على دولتي المصب.. ويرى مراقبون أن التواصل بين مصر والسودان (دولتي المصب) وإثيوبيا يجب أن يستمر رغم أن مسؤولين مصريين يشككون في انحياز دولة "جنوب السودان" إلى جانبهم في ما يتعلق بمشروع السد.
ج. موقف إثيوبيا من بناء السد:
رئيس وزراء اثيوبيا الراحل"ملس زيناوي"
أوضح رئيس الوزراء الراحل "ملس زيناوي" موقف بلاده (إثيوبيا) من بناء سد النهضة، في مقابلة أجرتها معه جريدة "الحياة"، في "أديس أبابا"، جرى نشرها يوم 12 مايو 2011م، عدد (17569)، على النحو الآتي: حيث قال إنه لا يعرف سبب قلق المصريين من قرار "أديس أبابا" تدشين الأعمال الإنشائية لبناء "سد النهضة" على "النيل الأزرق"، موضحًا أن توليد الكهرباء من السدود لا يستهلك مياهًا، ولا ينطوي على تحويل مجاري الأنهار، لذلك لا يمكنهم -أي المصريين- القول: إننا بتوليد الكهرباء سنستغل مياهًا من حقهم أن يستغلوها، لأننا لن نستهلك تلك المياه، نحن فقط نقوم بتنظيم تدفقها حتى تشغل التوربينات الكهربائية.. فالمصريون غير قادرين على فهم ما نقوم به إزاء ذلك.. ويبدو أنهم يعانون من مشكلة، ونحن في حيرة من أمرهم.. فالسودانيون على عكس المصريين يفهمون ما نقوم به، وليست لديهم مشكلة حيالنا.. إننا ظللنا طوال السنوات العشر الماضية نبني سدودًا، لكنها صغيرة، ومنها سد على نهر "تكازي" الذي يعرف بنهر "عطبرة" عند وصوله إلى السودان، مستخدمين مواردنا الخاصة لإنتاج 350 ميغاوات.. كما بنينا نفقًا تحت بحيرة "تانا" التي ينبع منها نهر النيل الأزرق، يبلغ 18 كم، وهو أيضًا -أي النفق- أنشئ بمواردنا الخاصة، لتوليد 420 ميغاوات. عمومًا ظللنا نوسع قدراتنا على توليد الكهرباء ببناء سدود صغيرة.. وننوي تعبئة الشعب في إثيوبيا والخارج (80 مليون نسمة) حسب إحصاء عام 2011م، لمشروع "سد الألفية" المسمى بعدئذ "سد النهضة"، ونعتقد أنه سيكون بوسعنا توفير تلك الموارد المالية (3.3 بليون يورو) لهذا المشروع في غضون خمس سنوات، من خلال إصدار سندات خزينة. وقد كان تجاوب الشعب الإثيوبي إيجابيًا، وأعطانا الثقة بأننا سنوفر التمويل المطلوب.. أنه ليس صعبًا أن يجمعوه.. مضيفًا أنه في ما يتعلق بالتكنولوجيا اللازمة لبناء هذا السد الضخم، تتولى شركة (إيطالية) أشغال الهندسة المدنية، وهناك شركة محلية ستتولى أشغال المقاولات، إلى جانب شركات مقاولات عالمية.
وبالنسبة لاتهام "مصر" لـ"إثيوبيا" بمحاولة حجز المياه وتحويل مجاري الروافد التي تغذي النيل الأزرق، أوضح "زيناوي" أن ذلك غير صحيح على الإطلاق، إذ سبق أن ذكر أن "سد الألفية" ليس سدًا للري، ولا توجد أصلًا أرض قابلة للزراعة في تلك المنطقة ليقال إنه سيرويها بمائه.
قال إن "السودان" وحده هو الذي باستطاعته استخدام "سد الألفية" لأغراض الري، لكن إثيوبيا لن تستطيع.. فهو يقع على بعد 40 كم من حدود "السودان"، ويقع على منحدر صخري عميق، ولذلك، لا يسع "إثيوبيا" استخدامه في شيء سوى توليد الطاقة الكهربائية.. مؤكدًا أنه لم يتلقَّ أية شكوى من "السودان"، لأن "الخرطوم" تعرف منافع هذا السد بالنسبة إليها بسبب أنه لن يحدث بعد بنائه أي فيضان لنهر النيل في الخرطوم، كما أن "السودان" سيحقق فائدة أخرى، إذ إنه ظل يعاني من كثرة الطمي الذي عطل توربينات "خزان الرصيرص"، مما يتسبب عنه انقطاعات في التيار الكهربائي، وأنه بعد بناء "سد الألفية" ستواجه "إثيوبيا"، وليس "السودان"، مشكلة الطمي داخل أراضيها، وسيصبح "خزان الرصيرص" أكثر جدوى، وحين يتحقق ذلك فسيكون بوسع "السودان" التوسع في رقعة مشروع "الجزيرة" الزراعي الشهير.. لذلك نشعر -حسب زيناوي- بالحيرة حقًا لأننا لا نعرف لماذا يعارض المصريون إنشاء سد "الألفية" الذي لن يؤثر في جريان مياه النيل، ولن نستخدمه في الزراعة.
د. تصاعد الخلاف حول سد النهضة ببن إثيوبيا ودولتي المصب (مصر والسودان):
منذ 12 سنة من بداية إنشاء السد في أبريل 2011م، انعقدت اجتماعات عدة بين الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) داخلية في ما بينها، وخارجية مع الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الإفريقي.
وفي السياق نفسه، تم التوصل إلى "اتفاق مبادئ" عام 2015م. تم التوقيع عليه في "الخرطوم"، يوم 23 مارس 2015م، في قمة ثلاثية ضمت رؤساء الدول الثلاث، بحضور تمثيل البنك الدولي.
يتضمن الاتفاق ورقة تشمل عشرة مبادئ تلتزم بها الدول الثلاث بشأن سد النهضة على النحو الآتي:
1- التعاون المشترك واحترام المصالح لكل طرف، والتأكيد على أساس التفاهم المشترك والمنفعة المشتركة، وحسن النوايا، والمكاسب للجميع، والتعاون في تفهم الاحتياجات المائية لدول المنبع والمصب بمختلف مناحيها.
2- مبدأ التنمية، التكامل الإقليمي والاستدامة.
3- مبدأ عدم التسبب في ضرر ذي شأن.
4- مبدأ الاستخدام المنصف والمناسب.
5- مبدأ التعاون في الملء الأول وإدارة السد.
6- مبدأ بناء الثقة.
7- مبدأ تبادل المعلومات والبيانات.
8- مبدأ أمان السد.
9- مبدأ السيادة ووحدة إقليم الدولة.
10- مبدأ التسوية السلمية للمنازعات.
تلاه انعقاد اجتماعات حتى 6 أبريل 2021م، في "كنشاسا -جمهورية الكونغو الديمقراطية"، إلا أن الخلاف ظل قائمًا حول الاتفاق على ملء، وتشغيل "السد" الذي وصل اكتمال بنائه حينذاك بنسبة 79٪.
وقد برز الخلاف -حسب مراقبين- بعدما أقدمت إثيوبيا، 2020م، على بدء عملية تخزين السد دون التشاور مع دولتي المصب، وأوضحت، حينذاك، أن كل المسائل الخلافية مطروحة حاليًا أمام "الاتحاد الإفريقي برئاسة الكونغو الديمقراطية"، للتفاوض قبل الملء الثاني لخزان السد في يوليو 2021. وفي هذا الصدد، طلب كل من "مصر" و"السودان" رسميًا "إيقاف المحادثات المباشرة"، وإنشاء وساطة دولية برئاسة الاتحاد الإفريقي، للعب دور فعال لكسر الجمود في المفاوضات الثلاثية التي لم تنجح على مدى 9 سنوات، في التوصل لاتفاق نهائي بشأن السد، على أن تشمل المشاركة الرباعية (الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، والأمين العام للأمم المتحدة)، وذلك بدعم وتسهيل مهمة "الاتحاد الإفريقي"، فضلًا عن معالجة القضايا الخلافية دون الإضرار بأي طرف. وأكدت "الخرطوم" التزامها بالقوانين الدولية، وترفض أية خطوة إثيوبية بتعبئة خزان السد أحاديًا، الأمر الذي سيزيد من تفاقم الأمور. أما الجانب الإثيوبي، فأوضح أنه لم يتلقَّ أية معلومات بشأن الوساطة، وأنه ملتزم بالقوانين الدولية للمياه العابرة للحدود، وبما أن المفاوضات لم تسفر عن نتائج إيجابية، مع دولتي المصب، فإنه يفضل الرجوع إلى البيت الإفريقي (الاتحاد الإفريقي) كحل مناسب.
وقد تقدم رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية بمقترح في الأسبوع الأخير من يونيو 2021، يهدف إلى اتفاق مرحلي لتعبئة خزان سد النهضة بضمانات دولية، وعودة إثيوبيا للمفاوضات تدعمه كل من الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية.
وافق السودان على المقترح بشروط من ضمنها الضمانات، وهناك اتفاق مصري -سوداني حسب الرئيس المصري عبدالفتاح سعيد السيسي، بأهمية التنسيق المتكامل والشامل بخصوص السد بين السودان ومصر، ويؤكد الجانب المصري تحفظه على اتفاق منفرد بشأن سد النهضة، وكذا عدم عقد اتفاقيات مرحلية أو منفردة للملء الثاني لسد النهضة عام 2021. واستمرت إثيوبيا في الملء الثالث 2022م، وبحدود 22 مليار متر مكعب للمرات الثلاث.
وفي هذا العام، تحديدًا 10 سبتمبر 2023م، أكد رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد"، نجاح بلاده في إتمام الجولة الرابعة والأخيرة من ملء سد النهضة، وفقًا لما ذكرته وكالة أنباء العالم العربي.
وفور الإعلان عن الملء الرابع لخزان سد النهضة، 10 سبتمبر 2023م، نددت "مصر" بالتصرف الأحادي لـ"أديس أبابا"، مؤكدة أن هذا الإجراء يشكل مخالفة قانونية، ويعد تجاهلًا لمصالح وحقوق دولتي المصب وأمنهما المائي الذي تكفله قواعد القانون الدولي، في إشارة إلى مصر والسودان، وأن الأمور لن تستمر في أخذ ورد بين الدول الثلاث (مصر والسودان من ناحية، وإثيوبيا من ناحية أخرى).
وفي السياق نفسه، دعا رئيس الوزراء الإثيوبي إلى مواصلة المفاوضات، مشيرًا إلى أن بلاده تقوم ببناء السد لتوليد الطاقة، والإسهام في عملية التنمية، وطمأنة مصر والسودان على حصتهما من المياه، داعيًا إلى الوصول إلى تفاهم، كما أضاف أن بلاده خزنت 22 مليار متر مكعب في خزان سد النهضة، دون إضرار أو توقف المياه إلى دولتي المصب (مصر والسودان). وإزاء إعلان التعبئة الرابعة والأخيرة لـ"سد النهضة"، قال رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد": "واجهنا الكثير من التحديات، واضطررنا مرارًا إلى التراجع، وواجهنا تحديًا داخليًا وضغوطًا خارجية"، وأكد أن بلاده "ستنجز ما تعهدت به".
مع العلم أنه تم إنجاز نسبة 95% من الأعمال الهندسية، ونسبة تزيد على 83% من إجمالي المشروع.
وعن الموقف السوداني، أوضح الدكتور "عباس شراقي"، أستاذ الجيولوجيا ومصادر المياه بجامعة القاهرة، أنه باكتمال التخزين الرابع للمياه خلف "سد النهضة"، يكون نظام الزراعة الفيضية على جانبي النيل الأزرق في السودان، قد انتهى، ويتطلب ذلك إقامة السودان شبكة ري من ترع وماكينات رفع المياه، واستخدام الأسمدة لتعويض فقد الطمي الحادث بسبب سد النهضة، مما يزيد من تكلفة الإنتاج الزراعي السوداني في المستقبل.
وطالبت كل من "القاهرة" و"الخرطوم"، مرارًا وتكرارًا، "أديس أبابا"، بالتوقف عن ملء خزان "سد النهضة"، وانتظار التوصل إلى اتفاق ثلاثي بشأن ملء السد وآلية تشغيله. واستمر الوضع أمام إصرار إثيوبي في ملء السد وتشغيله دون اتفاق أو تفاهم مع دولتي المصب كحق سيادي، وبما لا يتسق مع قواعد القانون الدولي للدول المتشاطئة على نهر دولي.
جوهر القول، إن الأمور لن تستقيم على هذه الحالة من سوء التفاهم في مسألة ملء وتشغيل سد النهضة التزامًا بـ"اتفاق مبادئ" عام 2015م، الموقع عليه في الخرطوم، بين الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا)، وزاد الطين بلة التعقيدات الجديدة الناشئة في (2021-2022م) في الملف الحدودي بين "إثيوبيا" و"السودان"، وكذا عدم الاستقرار الداخلي في الدولتين (السودان وإثيوبيا) خلال الفترة. وقد صدر تصريح من وزارة الخارجية السودانية أن السودان "ليس لديه أية نية لخلق بلبلة أو الدخول في حرب مع إثيوبيا، وأن سياسته قائمة على حسن الجوار".
ويرى أنه من هذه الناحية، يجب أن يتم الفصل بين الملفين المائي والسياسي، والبدء بالتعاطي السريع في "الملف المائي" نظرًا لأنه الأكثر أهمية في الوقت الراهن.
ولسوء الطالع، نشبت الحرب الداخلية في السودان، وزاد الأمر تعقيدًا على المفاوضات، حسب مراقبين.
ومن هذا المنطلق، يجب ترسية بناء الثقة، وتعزيز التعاون والتنسيق في المجالات المختلفة بين إثيوبيا ودولتي المصب، إلا أن كلمة "التعاون" تبقى كلمة مجردة لا معنى لها ما لم يسبقها بناء الثقة بين دول حوض النيل، وقطع دابر التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية، والتي تسهم في إذكاء نار الفتنة في ما بينها.
وبناء عليه، فان مبادرة تعزيز العلاقات الثنائية بين دول حوض النيل، تؤدي إلى تسوية الأزمة المائية والحدودية أيضًا بيسر وسهولة برعاية "الاتحاد الإفريقي".
ويستحضرني بالمناسبة ثلاث أبيات من الشعر حول أهمية مياه نهر النيل شريان الحياة الأبدي لشعوب دول المنطقة وما يجب أن تكون عليه علاقات الأخوة بين دول المنابع ودول المصب:
أخي إن جفاك النهر أو جف نبعه
مشى الموت في زهري وقصف عودي
فكيف تلاحيني والحال أنني
شهيدك في هذا وأنت شهيدي
حياتك في الوادي حياتي، فإنما
وجودك في هذي الحياة وجودي
وبالنظر إلى استخدام القوة أو مجرد التهديد بها في العلاقات الدولية، هو أمر غير مشروع كقاعدة عامة، طبقًا لأحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
إن الحرب على المياه بين الدول الجارة لا تخدم أية دولة، بقدر ما تؤدي إلى مشاكل لا تحمد عقباها في المنطقة، مما يفتح المجال واسعًا للتدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للمنطقة بذريعة حماية المصالح ومكافحة الإرهاب، والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، بحكم قرب حوض النيل من منابع النفط والغاز، والممرات المائية الاستراتيجية لعبور ناقلات النفط والتجارة العالمية. كما أن الحرب في المنطقة ستولد حروبًا أخرى لن تتوقف إلا بدمار دول الحوض وتجزئتها لصالح تلك القوى الخارجية ومشاريعها الإمبريالية الصهيونية المرسومة خلال هذا القرن الأول من الألفية الثالثة.