فرض الليل صمته..
لف به الكون سماواته وأرضه..
ثمة حارس هناك في الأعالي اسمه القمر..
حشرات صغيرة ترسل أصواتها التي لا تستطيع تحديد مكانها إلا بالصدفة، كأن تجد نفسك مررت بجانبها بدون قصد…
الهدوء القاتل يفرض نفسه على كل الكائنات ويلون الليل بلونه…
من البعيد تتراقص أضواء خافتة، تارة تظهر، أخرى تغيب بفعل حركة الأشجار يتلاعب بها ريح الليل القادم من بحر عدن…
ثمة طريق واحد، تمر عليه بين الفينة والأخرى أرتال من الحمير الصاعدة من تلك النقطة التي يلتقي عندها القادمون من كل الجهات التي يأتي منها السيل، يتجمع ويذهب إلى بحر عدن عبر "خبت"1 الرُّجَاع…
كان ثمة أحدهم ينهب الطريق منتعلًا "شمبل"2 أتى بها من عدن ذات نزول، وظل يحافظ عليها سنين طوال…
يتندر أهل القرية أن رقم شمبل العم عبدالواسع "10" لم يمحَ من كثرة الاستخدام على الطرق الشوكية الصخرية الوعرة، لكن "عُكيش" له رأي آخر، يقول لك ضاحكًا:
بمجرد أن يخرج أبي من القرية تراه يحمل الشمبل على كتفه، تلك أيضًا عادة آخرين كثر بسبب الفقر، تراهم يعلقون شنابلهم على طرفي العصا التي تتمدد على الكتفين في أي رحلة طالت أو قصرت!
نامت القرى حول الطريق، إلا من بعض "وزاوز"3 تظهر خجلة من "دِيَمْ"4 حراس القات الليليين…وبعضهم يتفاخر بأن لديه "تشليت"5 من حق الشيخ عثمان، وبعضهم سرقه خلسة من "النصراني" الذي كان يشتغل عنده! حتى "ع" الذي سرقت ساعته عندما نزل إلى "الكريف"6 ليسبح مع الأولاد، طلع ليلبس ملابسه التي كان من حضه أن "ورد" لم تصل إليها وتخبئها كالآخرين، وتجبرهم على العودة عرايا إلى منازلهم، لينالوا ما تيسر من كلام مليح وضرب بالعصا..
صاح:
يا عيال أين ساعتي؟
فلم يسمع سوى الصمت..
هدد وتوعد بأنه سيذهب إلى "السيد" كاشف الأسرار، ليعرف منه غريمه الذي استولى على ساعته "أبو صليب" أو "رومر" كما كان يسميها "العدانية"7…
يردد درهم المجيدي دائمًا وهو يضحك ساخرًا:
سألوه أيش قال له السيد…
فلا يرد صاحب الساعة..
لكن خُويلد يهمس في أذن أقرب الجالسين عند تلك الزاوية من المقبرة:
وصل إلى قريب الباب ليسمع السيد يصيح من الداخل:
سارق سرق سارق..
فلم يتوقف لاهثًا سوى عند باب البيت، خيل إليه أن الناس كلهم كانوا وراه…
يهمس درهم متشفيًا:
سألوه أين فلوسي؟
سلفته بنص ريال بطاطس.. عملني مثل النصراني، الساعة سرقها منه هناك في مجراد عدن…
***
الطريق الوعر يمر منتصف المقبرة… لحظة أن دلف برجله، بدأ يردد:
السلام عليكم دار قوم مؤمنين. لا بد أن يسلم على الأموات، ذلك ما يأمر به فقه الدين الذي يلوكه في الصلوات الخمس كلما أم المصلين في مسجد القرية الصغير الذي بناه جده، ولا مانع من تكراره مرة أخرى صباح العيد، عندما يخطب خطبتي العيد من الكتاب الأصفر المهترئ الذي ظل طوال حياته يفخر بأنه من مسجد النور، منحه إياه كهدية الشيخ البيحاني…
السلام عليكم دار قوم مؤمنين..
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
جاءه الصوت قويًا في هدأة الليل.. لم يحس بعدها هل جرى أو طار! ظل يردد بينه وبين نفسه ودقات قلبه تكاد تطير به إلى السماء:
الأموات كلهم بعدي..
في صحن المسجد، وقد اختفى أمامه، ظل "عُكَيش" يلون الحكاية كما يحلو له:
أبي خفيف عندما يجري، لم يتوقف في القرية، فقد تجاوزها، لم يتوقف إلا عندما اصطدم بالجبل فوق "الأهجوم".. وهي القرية الساكنة بين قدمي جبل جُبران…
أما الذي جعله لا يتوقف، فسيل الحصى الذي انهمر على قفا رأسه، ليظن أن الأموات كلهم يجرون بعده، الشنابل هي التي كانت تحمل الحصى، وترميها على ظهره صعودًا إلى رأسه!
اختفى العم عبده شهورًا..
حتى إن درهم المجيدي ارتاح لأن منافسه القوي في البيع لطلبة المدرسة أثناء الراحة اليومية، اختفى… وكلما تذكر غريمه ابتسم بخبث…
سأله جاره صاحب "البنشر"8 الذي ظل سنين يشكو من قلة عدد السيارات الآتية من المدينة:
أسألك بالله، ألم تفعلها أنت بصاحبك؟
يبتسم بلؤم مرة أخرى:
اسألوه..
درهم المجيدي، كان بحارًا في فرنسا، حارب في صفوف الفرنسيين، وعندما وضعت الحرب أوزارها، عرضوا عليه الجنسية وأن يظل أحد أبطال الحرب هناك في النورماندي، شوقه لحليب أمه، جعله يرفض…، كنت تسمع حنينه إذا مررت هزيع الليل الأخير وهو ممدد على القبر:
آه يا فرنص، من يرجعني إليك، إلى مكالفك البيض مثل الزبدة…
عالمه ظل لسنوات "الصندقة"9 الصغيرة التي يبيع فيها البطاطس للأولاد.. وذلك القبر الذي كلما ضاق من داره المهترئ، ذهب يتمدد عليه ليعد النجوم كما كان يردد…
***
1- مساحة صحراوية يمر بها الهابطون إلى عدن من الجبال.
2- عبارة عن صندل من بلاستيك كانت مشهورة أيام بريطانيا في عدن.
3- أضواء خافتة من السُّرُج المعدنية التي كانت تُستخدم في القرى.
4- مِحْراس.
5- فلاش إضاءة.
6- مسبح القرية الصغير.
7- القادمون من عدن.
8- محل إصلاح إطارات السيارات.
9- غرفة صغيرة من الزنك.
"النداء"
عبد الرحمن بجاش
8 سبتمبر 2023