علينا أن نسأل أنفسنا سؤالًا/ أسئلة، ليست بريئة، هل يدخل ضمن حلمنا بدولة حديثة ديمقراطية، دعم وتسليح الجماعات المليشوية المختلفة في الشمال والجنوب؟
وهل يمكننا أن نتمكن من تقرير مصير أي شيء في حياتنا؛ من الجيش، إلى فرض شرعية القانون والدستور، إلى احتكار العنف في واقع انتشار الجماعات المليشوية في كل البلاد، وكل جماعة تقف خلفها دولة أجنبية داعمة وممولة لها ولمشاريعها الصغيرة المدمرة للإنسان وللحياة؟
هل يمكننا استعادة الدولة، وما تسمى "الحكومة الشرعية"، التي لا تجد لها مكانًا آمنًا لتستقر فيه، وبدون عاصمة، وكأنها شرعية في المنفى/ الخارج؟!
هل يمكننا الحديث عن "استعادة الدولة" أو "تقرير المصير"، وموانئنا ومطاراتنا مجمدة، يتحكم بها أطراف خارجية؟
هل يمكننا أن ندعو إلى السلام وإيقاف الحرب، ولا نقول كلمة لمن يتوجه بالبلاد إلى إقامة إمامة على قاعدة "الولاية" بـِ"الحق الإلهي"، وإلى تأسيس دولة "هاشمية سياسية" عنصرية، وإلى ممارسات كارثية ومدمرة على مستوى التعليم والمناهج التعليمية، ومحاولة تغيير الذاكرة الثقافية والوطنية والتاريخية لليمنيين، بعد جعلهم للحرب عنوانًا لهم؟
اليوم، هناك سلطة أمر واقع قائمة في الشمال، فرضت نفسها بقوة الغلبة وبدعم داخلي، وخارجي، والعالم كله صار يتحاور معها، بمن فيهم دول الاحتلال، ولا يلتفتون لما تسمى زورًا "الشرعية" التي صنعوها بأيديهم كدمى!
وهناك أكثر من دويلة مليشوية في الجنوب، مدعومة من الإمارات والسعودية، كما هناك دويلة في المخا تتبع أحد أبناء النظام القديم، مدعومًا وممولًا عسكريًا وماليًا من الإمارات، ويمكن حتى من السعودية، ضمن لعبة تبادل الأدوار والمصالح (طارق عفاش)، لبقاء البلاد في حالة "توازن الضعف"، وهناك مليشيات "إصلاحية"، مختلفة في تعز وفي بعض مناطق الجنوب، تشترك مع الحوثي، ومنذ أكثر من ثماني سنوات، في حصار تعز.
إن تعز اليوم محاصرة من أكثر من جهة مليشوية مسلحة؛ حوثية، وإصلاحية، وعفاشية، وجميعهم يشتركون في قهر ونهب وحصار وتدمير الإنسان في تعز، باسم الكفلاء في الخارج.
قاعدة عسكرية إماراتية في باب المندب وداخل الأرض، والحدود اليمنية، حيث البحر الأحمر اليوم بيد السعودية والإمارات ومصر، وغيرها، ولا سلطة لما تسمى الشرعية بكل ذلك.
سقطرى المنطقة اليمنية التاريخية والاستراتيجية، تتحكم بكل التفاصيل السياسية والاقتصادية فيها دويلة الإمارات، بل تجنس السكان اليمنيين فيها بجنسيتها!
اليمن اليوم صار في ظل الوضع المليشوي الراهن، مساحة وساحة لتصفية الحسابات الخارجية، والأخطر ساحة للنشاط الإرهابي السياسي والديني -في بعض المناطق- وبدعم من أطراف الحرب الكبار، ناهيك عن دعم أطراف إقليمية ودولية، فكلما ازداد النشاط الإرهابي في اليمن: "للقاعدة" و"تنظيم الدولة" و"داعش"... إلخ، أعطى ذلك شرعية سياسية وقانونية للوجود العسكري الأجنبي في اليمن: السعودي والإيراني والإماراتي وحتى الصهيوني، تحت حجة مكافحة الإرهاب العالمي، وتحت هذا الغطاء تغيب وتضيع القضية اليمنية، سواء لاستعادة الدولة، أو "تقرير المصير".
وفي خضم كل هذه الأسئلة/ التحديات الذاتية والموضوعية، والتي تصل إلى مستوى التحدي الوجودي والمصيري الذي يطال كل مستقبل البلاد، لم نسمع من القيادات "التقدمية" و"القومية الثورية" أنها نبست ببنت شفة، حول كل ما يجري في الشمال والجنوب، من تطورات دراماتيكية! اليوم فقدت اليمن، كسلطة ودولة، سيادتها على أرضها.. فقدت وزنها الوطني، ومكانتها الاقتصادية، صارت تحكمها المليشيات الداخلية، وواقعة بالمعنى الواقعي، وليس المجازي، تحت "الوصاية" و"الانتداب"، بل الاحتلال من قبل دول خارجية، ولم نسمع من قيادات الأحزاب سوى تكرار ترديد بياناتها المازومة (التاريخية) التي لم نجد فيها سوى تمجيد تاريخ أحزابها الذي كان، والذي له كل التبجيل والتقدير والاحترام، ولكن ماذا عن كل ما يُفعل باليمن اليوم سياسيًا وسياديًا ووطنيًا واقتصاديًا؟ أين موقف قيادات هذه الأحزاب من قضايا الحريات، ومن الفساد السياسي، ومن العدالة الاجتماعية الغائبة حتى في حدودها الدنيا، وتمثيلات ذلك، حالة الكهرباء والصحة والتعليم والماء، وعدم صرف الرواتب لقطاع واسع من موظفي الدولة الفقراء لأكثر من ثماني سنوات عجاف، فضلًا عن انعدام الخدمات الاجتماعية الأولية لمعظم السكان في الريف والمدنية، وهذا الأمر ينطبق على أوضاع الناس في الشمال والجنوب، وكأنهم يختلفون على وحول كل شيء، ولكنهم يتفقون على قهر المجتمع، وتدمير روحية الانسان!
إن التمسك بالمشروع الوطني الديمقراطي يستدعي الدفاع عن كل هذه القضايا/ الأسئلة الملحة، بعيدًا عن خطاب "نظرية المؤامرة". في تقديري، لم يخطر في بال وخيال السعودية، أنها ستجد قيادات كل همها مصالحها الخاصة، وفاقدة الحد الأدنى من الممانعة الوطنية، على أي مستوى كان، كل همها بقاؤها في السلطة أو استمرار دعمها المالي المخصص لكل منها، من المصادر المالية المختلفة! ولذلك حولت السعودية الاستنجاد بها تحت ذريعة "استعادة الدولة"، إلى احتلال، وهنا تقاطعت مصالح الوكلاء، والكفلاء، في جعل الحرب حالة مستدامة، ومن هنا قولي إنه لم يخطر في خيال السعودية أن تجد قيادات يمنية رسمية وحزبية منبطحة وبياعة للوطن، بهذا الشكل، فتجربتها -السعودية- مع السلطات والحكومات اليمنية، من بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، حتى اتفاقية جدة مارس 1970م، وحتى اليوم، أثبتت لها أنها لن تجد قيادات مطواعة ورخيصة (مهانة ومذلة)، كحالنا مع هذه القيادات، التي تواءمت وتكيفت مع كل الأوضاع والأحوال الاحتلالية، ولم تعد ترى في الحرب الجارية سوى عنوان لاستمرار بقائها في السلطة، وفي قيادات الأحزاب.
قيادات تعيش حالة تبلد ولامبالاة، فاقدة الضمير الأخلاقي قبل الوطني، ما يعني فقدانها الكرامة الشخصية والإنسانية، وهي التي لم يحركها كل هذا الدمار والخراب الذي يطال كل تفاصيل حياة الناس، فقط ينظِّرُون من أبراجهم العاجية في الخارج حول "السلام وإيقاف الحرب"، ويزايدون علينا من أنهم رجال ودعاة سلام.. السلام الذي لم ولن يأتي من خلال هذه الخطابات الإعلامية.. فقط، من يسبقنا في الحضور هي الحرب التي لن تقف إلا في صورة "هدن حربية" متكررة وبما يخدم مصالح الخارج.
قبل خمسة عقود كتب المرتزق ديفيد سمايلي، في كتابه "مهمة في الجزيزة العربية"، جزء2، ص131، حول حرب السعودية على جمهورية سبتمبر 1962م، التالي: "السعوديون لأسباب خاصة بهم كانوا يمنحون الملكيين مساعدة تكفي فقط لإطالة أمد الحرب، ولكنها لا تكفي لحسمها تمامًا، كما أن السعوديين يرتابون، وكان مبررًا في أن بعض التموينات التي يرسلونها تختلس، ولم يساورني أي شك في أن العامل في كسب الحرب هو النقود، لأن معظم القبائل في التحليل الأخير ستحارب مع الجانب الذي يدفع أكثر، إلى الحد الذي جعل المرتزقة من عملوا في "منظمة الجيش السري الفرنسية" يقولون: إن شعارهم القديم "من يبدي جرأة يكسب" يجب أن يستبدل بــ"من يدفع نقودًا يكسب"، وهو ما تعلموه من تجربتهم مع القبائل ومشائخ القبائل اليمنية طوال سنوات ارتزاقهم وعدوانهم على اليمن.
إن قراءة ما كتبه المرتزق ديفيد سمايلي، لحرب السعودية على اليمن، تصلح اليوم بحذافيرها على جميع المرتزقة، من الوكلاء لجميع أطراف الحرب و"الكفلاء"، القائمين اليوم، والقادمين من الخارج، والأهم أن هدف السعودية ومعها قوى العدوان الجدد الإمارات وإيران، هو جعل الحرب في اليمن، حالة مستدامة، لاستنزاف جميع أطراف السياسة، والمجتمع، وما تبقى من الاقتصاد، لجعل عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي "توازن الضعف"، هو القانونية العامة الناظمة، والمنظمة لحربهم على اليمن، ففي الحرب الجمهوية -الملكية، استنزفت السعودية القدرات اليمنية، وأججت الصراعات الداخلية في قلب الصف الجمهوري، والأهم أنها اشتغلت مع القوى الاستعمارية منذ بداية عدوانها على ثورة 26 سبتمبر 1962م، لاستنزاف الجيش المصري في اليمن أكثر فأكثر، الأمر الذي سهل على إسرائيل عدوانها على مصر الذي كان مرتبًا له، وكان برغبة أمريكية إسرائيلية سعودية، وهو ما تشير إليه أكثر من وثيقة، وتقرير دولي، منها رسالة من الملك فيصل إلى الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، حول ضرورة عدم دعم مصر، واستنزاف الجيش المصري في اليمن، وضرورة دعم إسرائيل، بالقيام بهجوم سريع على مصر تستولي خلاله على مواقع استراتيجية، ولتخرج مصر من اليمن ضعيفة منهكة مدمرة اقتصاديًا وعسكريًا، بل في رسالة فيصل أكثر من ذلك، يمكنكم العودة إلى كتاب حمدان حمدان "عقود من الخيبات" (ط1، 1995، دار بيسان، ص489-491).
لقد تقاطعت اليوم المصالح السعودية والإيرانية والإماراتية في استدامة الحرب على اليمن، لأنها الأطراف الأصلية المستفيدة من استمرار الحرب، واستمرار جعلهم لها حالة تدور بين الهدن الحربية السلاموية، وبين الحرب، و"اللاحرب" القائمة على الأقل من خمس سنوات، الخاسر الأعظم فيها هو الشعب اليمني.
مانزال نتذكر ظاهرة "النيران الصديقة" السعودية والإمارتية التي كانت تقتل فقط قيادات الجيش اليمني، ومواقع الجيش اليمني في "العبر" إلى "العند" و"العلم"، إلى عشرات عمليات القتل في المواقع المختلفة، التي طالت قيادات عسكرية لها موقف سياسي وعسكري من الانقلاب، و من إدارة السعودية، والإمارات للعمليات الحربية، ومن وجود جيش وطني قوي، ومن عداء لقضية بناء دولة مركزية يمنية قوية، هذه هي المفردات والمعطيات والأسئلة التي لا يتناولها الخطاب السياسي السلاموي، والمبادرات السلاموية الزائفة لبعض الأطراف والأسماء والمكونات!
نحن الفقراء من الراتب، المهددون بالطرد من السكن، ونجرجر إلى المحاكم القضائية الفاسدة في صنعاء. نحن المحرومون من العلاج ومن الدواء، ومن الكهرباء، ومن الماء، ومن التعليم، الذين وصل الحال ببعضهم إلى الانتحار وإلى الجنون النفسي، هم من يريدون السلام حقيقة، ولا دخل لهم بالمزايدات الكلامية حول شعارات ومبادرات سلاموية فارغة من المعنى، لم تقدنا سوى إلى صناعة "هدن حربية مؤقتة"، تخللت سنوات الحرب التي نتجرع مراراتها في كل لحظة.
من يصنع المليشيات ويدافع عنها ويمولها وينشرها في طول وعرض البلاد، لا يمكنه أن يكون داعية للسلام، ولا مع استعادة الدولة ومن يصمت عن فعل هذه المليشيات ومن يقف وراءها، ولا يقول كلمة نقد سياسية وطنية واضحة حولها، لا يمكنه أن يكون داعية للسلام، وحاملًا لراية إيقاف الحرب.. من يصمت، بل ويبرر ويشرعن بالصمت، وبالكلام الموارب أو بالمبادرات الكلامية عن السلام، كل ما يجري في البلاد، هو بالفعل طرف سياسي مشارك في إنتاج هذه الحرب واستدامتها، ، ولو علق على عقل رأسه كل يوم بيانًا عن "السلام".
إن الصمت في وجه الاستبداد، والفساد الديني تحديدًا، وفي وجه العنصرية والسلالية تحت شعار "الولاية"، إنما هي مشاركة فعلية في الظلم، وشرعنة للعنصرية، ذلك أن السلالية، اختلاف وتناقض جذري وأبدي، مع الإنسانية السوية، لأنها ببساطة تلغي الإرادة الإنسانية الحرة للناس كمواطنين أحرار، وهذا وحده يكفي لتقوم ألف انتفاضة وثورة، ضد هذا العبث والجنون، بالأرض والتاريخ والإنسان.
السلام.. السلام رؤية وموقف، وهو الغائب عن الكثيرين من حملة شعارات السلام في المناسبات المختلفة.
خلاصة القول
إن السعودية وإيران والإمارات، هي الأطراف السياسية الخارجية المستفيدة من استمرار الحرب وضبطها على إيقاع مصالحها الخاصة، وعبر وكلائها في الداخل، وجميعهم يدركون مصالحهم جيدًا، ولا يمكننا هنا أن نتوهم أن شرعية صنعتها وركبتها دول العدوان (الاحتلال) كما تريد، أنها يمكن أن تفكر مجرد تفكير باستعادة الدولة، وكما قال صديق ورفيق العمر، الشاعر د. سلطان الصريمي: "ومن يسهن من الفرخة لبن يسرح يبلس"، أي كمن ينتظر من "البومة"، لبنًا.
إن الثلاثي العدواني الاحتلالي: السعودية -إيران -الإمارات، إنما يريدون -تدريجيًا- تعويدنا على أن نقبل بنظام سياسي هش، وشبه دويلة تقوم على "المحاصصة الطائفية والقبلية والمناطقية"، ولا مانع في أن تكون وتوجد -هذه المليشيات- في شكل أكثر من دويلة: طائفية وقبلية ومناطقية وقروية، موزعة بين الشمال والجنوب.. هو سير على نار حامية لصناعة خرائط دم، وهو ما يتحقق وهو -كذلك- ما قد يجعل اليمن، شمالًا وجنوبًا في حالة حرب مستدامة وفي وضع تابع للخارج على طول الخط.
إنهم، يحاولون فرض النموذج الإيراني اللبناني والعراقي على اليمن، أي دولة النظام السياسي الطائفي القبلي المناطقي الجهوي، لتبقى اليمن تحت قبضتهم وهيمنتهم لعقود إن لم يكن لقرون قادمة -لا قدر الله- وهو بداية النهاية لوضع اليمن خارج السياسة الوطنية، وخارج التاريخ المعاصر، وتحت "الوصاية" و"الانتداب" تحت عناوين سياسية معاصرة، وهو ما لم يتنبه له بعض أصحاب المبادرات السلاموية الفارغة من المعنى، فحينها -وعندها- لا تحتاج السعودية وإيران والإمارات وغيرها إلى جيوش لتفرض إرادتها السياسية والاقتصادية علينا، فالوكلاء المعنيون في الداخل والمعينون من الخارج، هم أدوات ووسائل هذه الحرب الداخلية المستدامة المقبلة التي لا ولن تتوقف إلا لتبدأ، والنموذج اللبناني -منذ أكثر من قرن 1923م- والعراقي منذ غزو واحتلال العراق 2003م، خير شاهد على ذلك.
إن الحروب العادلة كما قالها عمر الجاوي، قبل خمسة عقود، وكما تؤكدها الخبرة الوطنية والقومية، والتاريخية للشعوب، "إنما تحسمها الظروف الموضوعية وروح الاستبسال من قبل الشعب" عمر الجاوي ("حصار صنعاء"، ص8)، الشعب الذي تحاول القوى الاحتلالية، والنخب الخائفة، والخانعة والفاسدة، تغييب دوره في هذه الحرب العدوانية على اليمن واليمنيين.
والبداية في رفضنا كل أشكال الاحتلالات، من خلال خطاب سياسي وطني، واستعادة روح الوحدة الوطنية اليمنية، على قاعدة المواطنة الديمقراطية في العمل المشترك مع الناس في الشارع، وليس من الخارج، باتجاه التأسيس لميلاد "كتلة اجتماعية تاريخية"، مقاومة لكل ذلك، فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة صحيحة واحدة.