عدد من المحادثات جرت بيني وبين محمد عثمان، كاتب رواية "رجة تسمع بالكاد"، وأولى محادثة جرت بيننا، كانت بعد أن لاحظ محمد عثمان، ولأول مرة، أني منهمك الاهتمام بقراءة كتابات ذات طابع فلسفي؛ كان ذلك في شتاء 2004، حيث مر عليَّ في سكني، ولاحظ أمامي أوراقًا مكتوبة تحاول قراءة كتاب جيل دولوز "حوارات في الفلسفة والأدب"، وقتها تعجب من انهماكي في هكذا قراءة لا تناسب تخصص دراستي الجامعية اللافلسفية.
محمد أحمد عثمان - النداء
ولأن محمد عثمان كاتب ودارس فلسفة، فقد قدر محاولتي هذه رغم بساطتها وسذاجتها أيضًا؛ فحسب المفترض أن يقوم بها أحد دارسي الفلسفة أو أحد أساتذتها؛ وحينها عرض عليَّ أن أقدم وأعرض قراءتي تلك لكتاب جيل دولوز، في مقر اتحاد الأدباء أو مقر الجمعية الفلسفية..
ومن هنا، من هذا العارض، أخذنا نتحدث حول المؤسسات اليمنية الرسمية أو غير الرسمية، المهتمة بالكتابة والإبداع، حيث أتضح أن لدى محمد عثمان مجموعة أفكار يحب بلورتها عمليًا؛ وهي في مجملها تساعد على الاهتمام بالإبداع الثقافي، وعلى إعادة النظر في مؤسسات الإبداع الثقافي، بخاصة اتحاد الأدباء الكتاب والجمعية الفلسفية، واللذين محمد عثمان عضو فيهما.
لاحظ عثمان أن ملاحظاتي النقدية العامة حول السياسي الغالب والمهيمن على أداء هذه المؤسسات، منسجمة مع أفكاره المهتمة بالإبداع الثقافي.
لكنه لاحظ أيضًا حذري من الخطاب السياسي في المشهد الثقافي عامة؛ إلا أنه بدا إيجابيًا؛ حيث حرص على مواجهة هذا التضخم السياسي في هذه المؤسسات، من داخل هذه المؤسسات نفسها؛ بجعلها تهتم بما هو في صميم عملها؛ الإنتاج الثقافي، وذلك كي تعود هذه المؤسسات إلى جوهر عملها في استضافة رياح أخرى للكتابة والإبداع..
وبعد يومين عاد للقائي، وقد نسق لي أمسية رمضانية في مقر اتحاد الأدباء والكتاب.. وفعلًا ذهبت حسب الموعد، لأقدم ما كنت قد كتبته حول كتاب دولوز "حوارات في الفلسفة والأدب"، إلا أني وجدت مقر الاتحاد مغلقًا، وكان هو واثنان من الأصدقاء المحبذين لأفكاره الإبداعية، في انتظاري، حينها ابتسمنا لبعض كمؤمنين، واقتسمنا الخيبة معًا.
بعدها، وبعد مضي عدد من الشهور، التقينا، وأخذنا نتحدث حول هموم مشتركة، ووجدته -كما هو- مصرًا على أفكاره في تفعيل أداء اتحاد الأدباء والكتاب، من خلال برنامج إبداعي مختلف يركز على تنشيط جوهر العمل الثقافي في البلد، وحدثني هذه المرة أنه التقى أبو بكر السقاف، وطلب منه أن يقيم فعالية في مقر الاتحاد حول الأدب اليمني المعاصر، ووافق على طلبه؛ إلا أن أبو بكر السقاف أنهى الموافقة على طلبه بتساؤل: "وماذا عن الفلسفة يا محمد؟".
حرص محمد عثمان أن يعرض لي تساؤل أبو بكر السقاف "وماذا عن الفلسفة يا محمد؟"، أكثر من قبول أبو بكر السقاف لدعوته لأن يتحدث في مقر الاتحاد؛ حيث ظل تساؤل السقاف معه ومشغولًا به.
وعندما التقيته مرة أخرى، وجدته يحدثني كيف أنه أخذ يدرس لطلابه في الثانوية العامة الفلسفة من خلال الأدب؛ حيث اقتطف بعضًا من الكتابات الأدبية المناسبة، وقدمها للطلاب، ليعلم طلابه الفلسفة من خلالها.
رد محمد عثمان على تساؤل "وماذا عن الفلسفة يا محمد؟"، بأسلوب تعليم يجعل من الفلسفة متواشجة الإبداع مع الفنون والعلوم الأخرى، مبقيًا على تساؤل أبو بكر السقاف تساؤلًا فلسفيًا؛ أي بما هو مساءلة الحقيقة، حقيقة الدين أو الفن أو حقيقة العلم أو التقنية "وماذا بعد؟".. فالفلسفة هي فن الريبة من أية حقيقة كانت..
بعدها بسنوات وجدته في برنامج مختلف؛ ترك مقيل القات، وبدأ في لعب كرة الطاولة ولعبة البيلياردو، وأحيانًا المشي والتنزه من وقت لآخر، مع كاميرا يلتقط بها وقت اللحظة، فأهمية الصورة الفوتوغرافية لديه تكمن في تجميدها للوقت، ومحاولة الاحتفاظ به داخل ذاكرة.. ذاكرة نعود لها من وقت لآخر كمنسي؛ فالصورة الفوتوغرافية يصبح وقتها جزءًا منا، لكنه محتفظ ومنسي في آن معًا.
حسدته على برنامجه هذا الذي يُعْرِض عن حضور قول المقيل، ليجري لاهثًا في سبيل إيجاد جملة عبر اللعب بالكلمات..
في 2011 مشى محمد عثمان قليلًا مع أحلام الناس في الثورة والتغيير، ومع حيوية الشباب في الحياة، دون كلام أو نقاش في الأحداث أو القضايا المثارة حينها، فالجسد بما هو حيوية لا يتكلم، وإنما يحيا. ومع ذلك تسمع رجته بالكاد كما رقصة..
في السنوات الأخيرة، مع إعلان الحرب في اليمن 2015، غادرني محمد عثمان إلى القاهرة، وبقي في قلبي هو وكتابته "رجة تسمع بالكاد"..